Categories
Journalism

كارل ماركس: المناهض للاستعمار في البلاد العربية

عندما عاش ماركس في الجزائر، هاجم بشدة انتهاكات الفرنسيين العنيفة، وأعمالهم الاستفزازية المتكررة وتعاليهم الوقح وغطرستهم، وهوسهم بالانتقام مثل مولوخ[1] في مواجهة كل تمرد من السكان العرب. فكتب: «تفرض الشرطة نوع من التعذيب هنا لإجبار العرب على «الاعتراف»، تمامًا كما يفعل البريطانيون في الهند». ماركس: «هدف المستعمرون دائمًا نفس الشيء: تدمير الملكية الجماعية الأصلية وتحويلها إلى سلعة للبيع والشراء».

ما الذي كان يفعله ماركس في المغرب العربي؟

في شتاء عام 1882م، خلال العام الأخير من حياته، عانى كارل ماركس من التهاب حاد في الشعب الهوائية فنصحه طبيبه بقضاء فترة راحة في مكان دافئ. كانت الخيارات المطروحة محدودة فلم يكن جبل طارق ضمنها؛ لأن ماركس كان بحاجة إلى جواز سفر لدخول الإقليم، وبصفته شخصًا بدون جنسية بالتالي بلا جواز، كان الأمر مستبعدًا، أمّا فيما يخص الإمبراطورية الالمانية؛ فقد كانت الثلوج تغطيها ولا تزال محظورة عليه على أي حال، في حين كانت إيطاليا أيضًا غير واردة، وذلك حسب تعبير فريدريك إنجلز: «إنّ الشرط الأول للنقاهة هو عدم وجود مضايقات من الشرطة».

أقنعه صهره بول لافارج وإنجلز بالتوجه إلى الجزائر، التي كانت معروفة بين الإنجليز كملجأ للهروب من قسوة الشتاء. كما تذكر إلينور ماركس لاحقًا، أن الذي دفع ماركس إلى القيام بهذه الرحلة غير العادية هو أولًا: إكمال رأس المال. عَبَرَ ماركس إنجلترا وفرنسا بالقطار ثم البحر الأبيض المتوسط ​​بالقارب، وعاش في الجزائر لمدة 72 يومًا وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي غادر فيها أوروبا، غير أنّه -ومع مرور الوقت- لم يُظهر أيّ تحسن صحي، فمعاناته لم تكن جسدية فقط، لقد كان وحيدًا جدًا بعد وفاة زوجته، وكتب إلى إنجلز قائلًا أنّه يشعر «بهجمات عنيفة من الكآبة العميقة، مثل دون كيخوته العظيم». كما افتقد ماركس -بسبب حالته الصحية- النشاط الفكري الجاد، وهو أمر ضروري -دائمًا- بالنسبة له.

 آثار إدخال المستعمرين الفرنسيين للملكية الخاصة

لم يسمح وقوع العديد من الأحداث غير المواتية لماركس بالوصول إلى حقيقة الواقع الجزائري، ولم يكن من الممكن حقًا دراسة خصائص الملكية الجماعية عند العرب -وهو موضوع كان قد اهتم به كثيرًا قبل بضع سنوات-. في عام 1879م، قام ماركس بنسخ أجزاء من كتاب عالم الاجتماع الروسي مكسيم كوفاليفسكي، «الملكية الجماعية للأرض: أسباب انحلالها وتاريخها ونتائجها»، خُصصت إحدى دفاتر دراسته لأهمية الملكية الجماعية في الجزائر قبل وصول المستعمرين الفرنسيين، وكذلك للتغييرات التي أدخلوها.

من كتاب كوفاليفسكي، نسخ ماركس ما يلي: «تشكّل ملكية الأرض الخاصة -في نظر البرجوازية الفرنسية- شرطًا ضروريًا لكل تقدم في المجال السياسي والاجتماعي»، إنّ استمرار الحفاظ على الملكية الجماعية «بوصفها شكل يعزز النزعات الشيوعية في الأذهان، أمر خطير على المستعمرة وعلى الوطن الأم». كما أنه انجذب إلى الملاحظات التالية: «لقد سعى الفرنسيون إلى نقل ملكية الأرض من أيدي السكان الأصليين إلى أيدي المستعمرين والمضاربين الأوروبيين في ظل جميع الأنظمة، كان الهدف دائمًا نفسه يتكرر: تدمير الملكية الجماعية الأصلية وتحويلها إلى سلعة للبيع والشراء، وبهذه الوسيلة يتم تسهيل الانتقال النهائي إلى أيدي المستعمرين الفرنسيين.

أما بالنسبة للتشريع حول الجزائر «قانون وارني»[2] الذي اقترحه الجمهوري اليساري جول وارني وتم إقراره في عام 1873م، فقد أيد ماركس احتجاج كوفاليفسكي بأن الغرض الوحيد منه كان: «مصادرة أراضي السكان الأصليين من قبل المستعمرين والمضاربين الأوروبيين، ووصلت وقاحة الفرنسيين إلى حد «السرقة المباشرة»، أو تحويل جميع الأراضي غير المزروعة المتبقية من ملكية العروش[3] للاستخدام المحلي، إلى «ملكية الحكومة». وُضِعَ هذا الإجراء للوصول إلى نتيجة أخرى مهمة: القضاء على خطر المقاومة من السكان المحليين.

مرة أخرى، ومن خلال كلمات كوفاليفسكي، لاحظ ماركس أنه «سيصبح تأسيس الملكية الخاصة واستيطان المستعمرين الأوروبيين بين العشائر العربية؛ أقوى الوسائل لتسريع عملية حل روابط العشيرة. كان القصد من قانون نزع ملكية العرب غرضين: 1- توفير أكبر قدر ممكن من الأراضي للفرنسيين؛ و 2- إزالة الروابط العربية الطبيعية بالأرض، لكسر آخر قوة لروابط العشيرة التي عُمِلَ على حلها، وبالتالي استبعاد أي خطر لأي تمرد. علق ماركس على أن هذا النوع من الفردية في ملكية الأرض لم يضمن فقط فوائد اقتصادية ضخمة للمستعمرين فحسب، بل حقق أيضًا «هدفًا سياسيًا: تدمير بُنية هذا المجتمع».

تأملات في العالم العربي

في فبراير 1882م، عندما كان ماركس في الجزائر، وثّقت مقالة في صحيفة «ذا نيوز» المحلية؛ الظلم الذي يتسم به النظام الجديد. من الناحية النظرية، كان بإمكان أي مواطن فرنسي الحصول على امتياز لأكثر من 100 هكتار من الأراضي الجزائرية، دون حتى مغادرة بلده، ثم إعادة بيعها إلى مواطن محلي مقابل 40 ألف فرنك. وكمعدل، باع المستعمرون كل قطعة أرض اشتروها مقابل 20-30 فرنكًا بسعر 300 فرنك. حال َوضعه الصحي السيء، دون التعمق في دراسته لهذه المسألة، ومع ذلك، في الرسائل الستة عشرة التي كتبها ماركس ووصلتنا (كتب أكثر من ذلك، لكنها ضاعت أو اُتلفت)؛ قدم عددًا من الملاحظات المهمة من الطرف الجنوبي من البحر الأبيض المتوسط، لعلّ الملفتة هي تلك التي تدور حول العلاقات الاجتماعية بين المسلمين.

لقد تأثر ماركس بشدّة ببعض خصائص المجتمع العربي. علّق قائلاً: بالنسبة لـ «المسلم الحقيقي مثل هذه الحوادث -الجيد أو السيء منها- لا تفرّق بينهم، ولا تتأثر المساواة المطلقة في تواصلهم الاجتماعي. على العكس من ذلك، فقط عندما يفسدون هم مدركين لذلك. يعتبر سياسيوهم هذا الشعور والممارسة للمساواة المطلقة مهميّن. ومع هذا، فإنهم يستطيعون التدمير دون حركة ثورية».

في رسائله، هاجم ماركس بازدراء انتهاكات الأوربيين العنيفة واستفزازاتهم المستمرة، ولا سيما «ادعاءاتهم السافرة وتماديهم تجاه الأجناس الدنيا»، وهوسهم المولوخي المروّع بالانتقام في مواجهة أي عمل من أعمال التمرد. كما شدّد على أنه في التاريخ المقارن لاحتلال المستعمرات؛ «تفوّق البريطانيون والهولنديون على الفرنسيين». في الجزائر نفسها، أبلغ إنجلز أن القاضي التقدُميّ فيرمي الذي التقى به، شهد بانتظام خلال مسيرته المهنية «شكلاً من أشكال التعذيب لاستخراج «اعترافات» من العرب، تقوم بها الشرطة بشكل طبيعي (مثل الإنجليز في الهند)».

كما قال لماركس أنّه «عندما ترتَكب عصابة عربية جريمة قتل وسرقة، ويُلقى القبض على المذنبين في الوقت المناسب وتقديمهم للمحاكمة والإعدام، فإن هذا لا يُعتبر تعويض كافٍ لعائلة المستعمر المصاب. بل يطالبون أيضًا «بالقبض» على نصف دزينة من العرب الأبرياء على الأقل. عندما يسكن مستعمر أوروبي بين أولئك الذين يُعتبرون «الأجناس الدنيا»، سواء كان مستوطنًا أو ببساطة تاجر، فإنه ينظر إلى نفسه عمومًا على أنه أكثر حُرمة من الملك».

ضد الوجود الاستعماري البريطاني في مصر

وعلى نحو مماثل، بعد بضعة أشهر، لم يدخر ماركس أي جهد في توجيه انتقادات لاذعة للوجود الاستعماري البريطاني في مصر. أنهت الحرب التي شنتها قوات المملكة المتحدة عام 1882م على ثورة عرابي التي بدأت عام 1879م ومكنت البريطانيين من إعلان مصر محميةً لها. كان ماركس غاضبًا من التقدمييّن الذين برهنوا عن عجزهم في الحفاظ على موقف طبقي مستقل، نبّه من أنه من الضروري جدًا أن يعارض العمال مؤسسات الدولة وخطابها. عندما بّرر جوزيف كوين (عضو مجلس النواب ورئيس المؤتمر التعاوني) -الذي اعتبره ماركس «أفضل النوّاب الإنجليز»- الغزو البريطاني لمصر، أعرب ماركس عن استنكاره الشديد لذلك.

كما وجه انتقادات شديدة للحكومة البريطانية، قائلاً: «رائع جدًا! في الواقع، لا يمكن أن يكون هناك مثال أوضح على النفاق المسيحي من غزو مصر -غزو في وسط السلام!-». لكن كوين، في خطابٍ ألقاه في 8 يناير 1883م في نيوكاسل، أعرب عن إعجابه «بالمآثر البطولية» للبريطانيين، و«تألق عرضنا العسكري»؛ وقال أيضًا أنه «لا يسعه إلا أن يبتسم على المنظر الرائع لجميع مواقع الهجوم المحصّنة بين المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، وإلى جانب ذلك: «إمبراطورية إفريقية-بريطانية» من الدلتا إلى كيب تاون».

كان هذا هو «النمط الإنجليزي»، الذي يتميز بـ «المسؤولية» تجاه «مصلحة الوطن الأم»، وخلُص ماركس إلى أن كوين في السياسة الخارجية، هو مثال نموذجي على «هؤلاء البرجوازيين البريطانيين المساكين، الذين يتأوهون وهم يتحملون المزيد من «المسؤوليات» في خدمة مهمتهم التاريخية، بينما يحتجون عبثًا ضدها». أجرى ماركس دراسات شاملة للمجتمعات خارج أوروبا، وأعرب بشكل لا لبس فيه عن معارضته ضد فظاعات الاستعمار. ومن الخطأ أن نفترض خلاف ذلك، على الرغم من الشكوك الذرائعية السائدة هذه الأيام في بعض الأوساط الأكاديمية الليبرالية.

خلال حياته، راقب ماركس عن كثب الأحداث الرئيسية في السياسة الدولية كما رأينا من كتاباته ورسائله، فقد أعرب في ثمانينيات القرن التاسع عشر عن معارضته الشديدة للقمع الاستعماري البريطاني في الهند ومصر، وكذلك للاستعمار الفرنسي في الجزائر. لم يكن ماركس مركزياً أوروبيًا على الإطلاق ويركّز على الصراع الطبقي فقط، بل اعتقد ماركس أن دراسة النزاعات السياسية الجديدة والمناطق الجغرافية الطرفية؛ أمر أساسي لنقده المستمر للرأسمالية، والأهم من ذلك، أنه وقف دائمًا إلى جانب المضطهدين».

[1]: مولوخ هو إله ذو نزعة شريرة لا يرضيه إلا قرابين الأطفال التي تقدم له حيث يحرقون بالقرب من المذبح. انتسب إلى العديد من الثقافات الكنعانية والفينيقية وذكر في الكتاب العبري.

[2]: قانون وارني جاء بهدف القضاء على الملكية الجماعية للقبائل والعروش؛ فسمح للسلطات الفرنسية بانتزاع عدد كبير من الأراضي.

[3]: ملكية العروش هي أهم أصناف الملكية العقارية في الجزائر منذ القرن الحادي عشر، حيث استقرت القبائل البدوية وتوطنت العشائر بالمناطق التي استحوذت عليها أو أُعطيت لها. وهذا النوع من الملكيات تتغير تسميته حسب المناطق والاقاليم.

Categories
Journalism

إختَرنا لكُم | اقرأوا كارل ماركس : محادثة مع إيمانويل والرستاين

نقدم لكم هذه المحادثة بين مارشيللو موستو هو أستاذ علم الاجتماع بجامعة يورك في تورونتو بكندا وإيمانويل والرستاين  أحد أهم علماء الاجتماع، وواحد من روّاد نظرية النظم العالمية.

ترجمة إبراهيم يونس باحث ماجستير في علم الاجتماع بجامعة الإسكندرية.

على مر ثلاثة عقود مضت، انفردت السياسات والأيديولوجيا الليبرالية الجديدة بالمسرح العالمي. وبالرغم من ذلك، حثَّت الأزمة الاقتصادية لعام 2008 وعدم المساواة العميقة التي وجدت في مجتمعنا، خاصة بين الشمال والجنوب العالميين، والتغيرات الدراماتيكية البيئية المعاصرة، العديد من المفكرين والمحللين الاقتصاديين والسياسيين إلى إعادة فتح النقاش عن مستقبل الرأسمالية والحاجة إلى بديل. وفي هذا السياق، تقريباً في جميع أنحاء العالم، في مناسبة الاحتفالية المئوية الثانية بمولد كارل ماركس، فإن هناك ’عودة ماركس‘؛ عودة إلى مؤلف رُبِط خطئاً بالدوغمائية الماركسية اللينينية، ومن ثم وضع على الرف بسرعة بعد سقوط جدار برلين.

العودة إلى ماركس ليست فقط ضرورية لفهم منطق وديناميكيات الرأسمالية، فعمله يعد أيضاً أداة توفر لنا فحص صارم يعالج التجارب الاجتماعية الاقتصادية السابقة التي فشلت في إحلال نمطاً إنتاجياً آخر محل الرأسمالية. إن تفسير هذه الإخفاقات لبالغ الأهمية لبحثنا المعاصر عن البدائل.

***

مارشيللو موستو: أستاذ والرشتاين، تستمر المنشورات والنقاشات والمؤتمرات حول العالم، بعد ثلاثين عاماً من انتهاء ما سُمّي ’الاشتراكية القائمة بالفعل‘، عن القدرة المستمرة لكارل ماركس على تفسير الحاضر. هل يُعد ذلك مفاجئاً؟ أم تعتقد أن أفكار ماركس ستستمر أهميتها بالنسبة إلى أولئك الباحثين عن بديل للرأسمالية؟

إيمانويل والرستاين: هناك قصة قديمة عن ماركس؛ تُلقيه من الباب الأمامي، فيتسلل إليك من النافذة الخلفية. هذا ما حدث مجدداً. إن ماركس راهنٌ لأنه علينا أن نتعامل مع مسائل ما يزال لديه الكثير ليقوله عنها، ولأن ما يقوله عن الرأسمالية يختلف عما يقوله معظم المؤلفين الآخرين. إن العديد من الكتاب والمفكرين، وليس أنا فقط، يجدون أن ماركس مفيدٌ بشكل كبير، وأنه الآن في واحدة من حقبه الشعبية الجديدة، بصرف النظر عما جرى توقعه عام 1989.

مارشيللو موستو: أدى سقوط جدار برلين إلى تحرير ماركس من أيديولوجيا ذات علاقة ضعيفة بمفهومه عن المجتمع، فقد ساعدت الأرضية السياسية التي تلت الانفجار الداخلي في الإتحاد السوفياتي في تحرير ماركس من دورٍ ’صوريّ‘ في جهاز الدولة. فماذا عن تفسير ماركس للعالم الذي يستمر في جذب الانتباه؟

إيمانويل والرستاين: أعتقد أنه عندما يفكر الناس في تفسير ماركس للعالم في مفهوم معين، فهم يفكرون في ’الصراع الطبقي‘. عندما أقرأ ماركس في ضوء الأحداث الراهنة، فإن الصراع الطبقي بالنسبة لي يعني النضال لما أسميه ’اليسار العالمي‘ – والذي أعتقد أنه يسعى إلى تمثيل 80% من سكان العالم وفقاً للدخل – ضد ’اليمين العالمي‘ الذي يمثل تقريباً 1% من السكان. يدور الصراع حول الـ 19% المتبقية، إنه عن كيفية جذبهم إلى الانضمام لجانبك بدلاً من الجانب الآخر. نحن نعيش في عصر الأزمات البنيوية للنظام العالمي، ولن يستطيع النظام الرأسمالي القائم أن ينجو، لكن لا أحد يستطيع أن يعرف بالتأكيد ما الذي سيحل محله.

أنا مقتنعٌ بأن هناك إمكانيتان؛ أولاهما ما أطلق عليه ’روح دافوس‘، المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يهدف لإقامة نظام يحافظ على أسوء سمات الرأسمالية؛ الهرمية الاجتماعية والاستغلال، وفوق كل ذلك استقطاب الثروة. يجب أن يكون البديل نظاماً أكثر ديمقراطية ومساواة. إن الصراع الطبقي هو المحاولة الأساسية للتأثير على مستقبل ما سيحل محل الرأسمالية.

مارشيللو موستو: إن إشارتك عن الطبقة الوسطى تذكرني بفكرة أنطونيو جرامشي عن الهيمنة، لكني أعتقد أن الموضوع أيضاً عن فهم كيفية تحفيز جماهير الناس، الـ 80% الذين ذكرتهم، ليشاركوا في السياسة. هذا تحديداً مُلِح فيما يسمى الجنوب العالمي، حيث يتركز معظم سكان العالم، وحيث أصبحت الحركات التقدمية، في العقود الماضية، وبصرف النظر عن الزيادة الدراماتيكية للامساواة الناتجة عن الرأسمالية، أكثر ضعفاً عما كانت عليه مسبقاً. ونحن نشهد، بالمثل، وبشكل متزايد، تصاعد هذه الظاهرة في أوروبا.

السؤال هو: هل يساعدنا ماركس في فهم هذا السيناريو الجديد؟ فالدراسات المنشورة حديثاً عرضت تفسيرات جديدة لماركس قد تساهم في فتح ’نوافذ خلفية‘ في المستقبل وفق تعبيرك. إنها تكشف عن مؤلف أمدَّ فحصه لتناقضات المجتمع الرأسمالي إلى مجالات أخرى فيما هو أبعد من الصراع بين رأس المال والعمل. في الحقيقة، كرَّس ماركس الكثير من وقته لدراسة المجتمعات غير الأوروبية ودور الاستعمار المدمر في أطراف الرأسمالية. في الأساس، وعلى العكس من التفسيرات التي تعادل مفهوم ماركس عن الاشتراكية بتطوير القوى المنتجة.

فقد ظهر الاهتمام بالبيئة بشكل بارز في أعماله. وأخيراً، كان ماركس مهتماً بشكل واسع بمواضيع أخرى مختلفة، عادة ما يتجاهلها المفكرون عندما يتحدثون عنه، ومن بينها إمكانات التكنولوجيا، ونقد القومية، والبحث عن أشكال لملكية جماعية لا تتحكم فيها الدولة والحاجة إلى الحرية الفردية؛ كل القضايا الأساسية لعصرنا. لكن بجانب هذه الوجوه الجديدة لماركس، التي تجدد الاهتمام بفكره، وتعد ظاهرة تبدو متجهة للاستمرار في السنوات القادمة، هل يمكنك الإشارة إلى ثلاثة أفكار معروفة لماركس تعتقد أنها تستحق أن يُعاد النظر فيها اليوم؟

إيمانويل والرستاين: أولاً وقبل أي شيء، فسَّر لنا ماركس، أفضل من أي شخص آخر، أن الرأسمالية ليست الطريقة الطبيعية لتنظيم المجتمع. ففي كتابه ’’بؤس الفلسفة‘‘ الذي نشر وهو ما يزال في التاسعة والعشرين من عمره، سَخَر بالفعل من الاقتصاديين السياسيين الذين جادلوا بأن العلاقات الرأسمالية “قوانين طبيعية مستقلة عن تأثير الزمن”، وكتب ماركس أن بالنسبة إليهم “نعرف أن ثمَّة ’تاريخ‘ حين نجد في مؤسسات الإقطاع علاقات إنتاج مختلفة تماماً عن تلك لدى المجتمع البرجوازي”، لكنهم لم يطبقوا التاريخ على نمط الانتاج الذي أيدوه؛ لقد قدموا الرأسمالية على أنها ’طبيعية‘ و ’أبدية‘.

حاولت في كتابي ’’الرأسمالية التاريخية‘‘ توضيح أن الرأسمالية هي ما حدث تاريخياً، على النقيض من الأفكار الخاطئة وغير الواضحة التي يعتنقها عدة اقتصاديين سياسيين من التيار السائد. وجادلت عدة مرات بأنه لا توجد رأسمالية ليست تاريخية، إن الأمر بهذه البساطة بالنسبة لي، ونحن ندين بهذا الصدد بالكثير لماركس. ثانياً، أريد أن أشدد على أهمية مفهوم ’التراكم البدائي‘ الذي يعني نزع ملكية الفلاحين عن أراضيهم، والذي يعد أساس الرأسمالية. فهم ماركس جيداً أن ذلك كان بمثابة العملية الرئيسية في تشكل هيمنة البرجوازية، لقد وجدت في بداية الرأسمالية ومازالت موجودة حتى الآن.

وأخيراً، أود أن أدعو إلى مزيد من التفكير في موضوع ’الملكية الخاصة والشيوعية‘، ففي النظام الذي تأسس في الاتحاد السوفياتي – خاصة تحت قيادة ستالين – كانت الملكية في يد الدولة، ولا يعني ذلك أن الناس لم يكونوا مستغَلين ومقموعين، لقد كانوا كذلك. إن الحديث عن اشتراكية في بلد واحد، كما فعل ستالين، كانت أيضاً شيئاً لم يدخل قط عقل أي أحد، بما فيهم ماركس قبل ذلك. تعد الملكية العامة لأدوات الإنتاج إحدى الخيارات، لكن علينا أن نعرف، إذا كنا ننوي إقامة مجتمع أفضل، من الذي ينتج ومن الذي يستقبل فائض القيمة. ومقارنة بالرأسمالية، علينا إعادة تنظيم ذلك بشكل كامل كبديل للرأسمالية، وهذه بالنسبة لي المسألة الرئيسية.

مارشيللو موستو: يوافق العام 2018 الذكري المئوية الثانية لمولد ماركس، وقد أنتجت كتب وأفلام جديدة عن حياته. هل هناك فترة ما في حياته تجدها أكثر جذباً للاهتمام؟

إيمانويل والرستاين: كانت حياة ماركس شاقة للغاية، فلقد عانى من الفقر الشديد، وكان محظوظاً بوجود رفيق مثل فريدريك إنجلز الذي ساعده على المعاش، ولم يكن لديه حياة عاطفية سهلة أيضاً. فإصراره على محاولة القيام بما اعتقد أنه عمل حياته، أي فهم كيفية عمل الرأسمالية، كان مثيراً للإعجاب حقاً. هذا ما رأى نفسه يفعله، فلم يسعى ماركس إلى تفسير العصور القديمة أو تعريف كيف ستكون الاشتراكية في المستقبل، فلم تكن هذه المهام التي وضعها على عاتقه، لقد أراد أن يفهم العالم الرأسمالي الذي عاش فيه.

مارشيللو موستو: لم يكن ماركس، على مدى حياته، مجرد مفكر معزول بين كتب المتحف البريطاني بلندن، بل كان دائماً مناضلاً ثورياً مشتبكاً مع نضالات عصره. وبسبب نشاطه نُفيَّ في شبابه من فرنسا وبلجيكا وألمانيا، وفرض عليه العيش في منفاه في إنجلترا عندما هزمت ثورات عام 1848. لقد دعم صحف ومطبوعات، ودائماً ما دعم الحركات العمالية بكل ما استطاع. ولاحقاً بين عامي 1864-1872 أصبح زعيم ’رابطة الشغيلة العالمية‘ (الأممية الأولى) التي تعد أول منظمة عابرة للحدود للطبقة العاملة، ودافع عام 1871 عن كوميونة باريس التي تعد أول تجربة اشتراكية في التاريخ.

إيمانويل والرستاين: نعم هذا صحيح. إنه لمن الجوهري ذكر نضالات ماركس. وكما نوّهت أنت في كتابك ’’أيها العمال اتحدوا !Workers Unite‘‘، كان لماركس دوراً استثنائياً في الأممية، وهي تنظيم شكّله أناس كانوا بعيدين عن بعضهم جغرافياً في وقت لم يشهد أي وسائل تواصل سهلة. وتضمن النشاط السياسي لماركس الصحافة أيضاً، حيث استمر فيها طوال حياته كوسيلة للتواصل مع عدداً أكبر من الجمهور. عمل صحفياً ليحصل على دخل، لكنه رأى مساهماته بمثابة نشاط سياسي. لم يكن حيادياً بأي شكل من الأشكال، وكان صحفياً ملتزماً.

مارشيللو موستو: في الاحتفالية المئوية للثورة الروسية عام 2017، عاد بعض المفكرين إلى التفريق بين ماركس وبعض من أتباعه الذين كانوا في السلطة إبّان القرن العشرين. ما الفرق الرئيسي بين ماركس وبينهم؟

إيمانويل والرستاين: إن كتابات ماركس أكثر دقة وتنوعاً من التفسيرات التبسيطية لأفكاره. إنه لمن الجيد دائماً أن نتذكر المزحة الشهيرة التي قال فيها ماركس “إذا كانت هذه هي الماركسية، فما هو مؤكد أنني لست ماركسياً”. كان ماركس مستعداً دائماً للتعامل مع واقع العالم على عكس الكثيرين الذين يفرضون آرائهم بشكل دغمائي، فعادةً ما غيَّر آرائه. كان يبحث باستمرار عن حلول للمشكلات التي رأى أن العالم ي واجهها، ذلك سبب بقائه للآن مُساعداً جداً ودليلٌ مفيد.

مارشيللو موستو: في النهاية، ماذا لديك لتقوله للأجيال الصغيرة التي مازالت لم تكتشف ماركس؟

إيمانويل والرستاين: أول شيء أود قوله للشباب هو أنه عليهم أن يقرأوه هو، لا تقرأوا عنه، لكن اقرأوا ماركس. قليل من الناس – بالمقارنة مع الكثيرين الذين يتحدثون عنه – قرأوا بالفعل ماركس. وهذا صحيح أيضاً في حالة آدم سميث. عامةً، يقرأ المرء فقط عن هذه الكلاسيكيات، فالناس يعرفونهم من خلال ملخصات الآخرين، إنهم يريدون بهذا أن يوفروا الوقت، لكن ذلك في الحقيقة مضيعة الوقت. على المرء أن يقرأ لكُتّاب مثيرين للاهتمام، وماركس هو أكثرهم إثارةً للاهتمام في القرنين التاسع عشر والعشرين، وليس هناك أي شك في ذلك. فلا أحد يساويه فيما يخص عدد الأشياء التي كتب عنها، ولا في جودة تحليلاته. إذن، فرسالتي للأجيال الجديدة أن ماركس فعلاً يستحق أن يُكتشف، لكنه يجب أن يُقرأ، اقرأوه. اقرأوا كارل ماركس.

***

إيمانويل والرستاين (1930-2019)هو أحد أهم علماء الاجتماع، وواحد من روّاد نظرية النظم العالمية بجانب سمير أمين وأندرى جوندر فرانك وجيوفاني أريجي. ألَّف أكثر من ثلاثين كتاباً ترجم معظمها إلى العديد من اللغات، وأبرز تلك الكتب ’’النظام العالمي المعاصر The Modern World-System‘‘ الذي يؤرِّخ فيه ويُشرِّح نشأة الرأسمالية منذ القرن السادس عشر وحتى مطلع القرن العشرين، ويقع هذا الكتاب في أربع مجلدات نشروا بين عامي 1974-2011.

مارشيللو موستو هو أستاذ علم الاجتماع بجامعة يورك في تورونتو بكندا، وله العديد من المؤلفات التي يركز فيها على إسهامات ماركس وسيرته الذاتية ونضالاته.

Categories
Journalism

لليسار إرث عميق في معارضة الحرب

مارسيلو موستو

نشر المقال في موقع جاكوبين بتاريخ 4 نيسان/أبريل 2022

لليسار تقليد عريق وغني في معارضة العسكرة يعود تاريخه إلى الحرب العالمية الأولى. وهذا التاريخ هو مصدر ممتاز لفهم أسباب الحرب في ظل الرأسمالية ولمساعدة اليساريين على الحفاظ على موقف واضح في معارضتها.

في وقت تبحث العلوم السياسية عن الدوافع الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية وحتى النفسية وراء نشوب الحرب، قدمت النظرية الاشتراكية مساهمة فريدة من خلال توضيح العلاقة بين تطور الرأسمالية والحرب. لطالما نظّر اليسار ضد الحرب، كما توفر المواقف الأساسية للمنظّرين الاشتراكيين والمنظمات الاشتراكية طوال 150 سنة الماضية مورداً مفيداً لمعارضة العدوان الروسي على أوكرانيا، وفي الوقت عينه لمعارضة حلف شمال الأطلسي.

نادراً ما تكون للحروب- يجب عدم الخلط بينها وبين الثورات- أثراً ديموقرطياً الذي أمِلَ به منظرو الاشتراكية. في الواقع، لقد أُثبت في كثير من الأوقات أن الحروب هي أسوأ طريقة للقيام بالثورة، سواء بسبب التكلفة البشرية أو بسبب تدمير قوى الانتاج التي تتضمنها. إذا كان هذا الأمر صحيحاً في الماضي، فهو بات أكثر وضوحاً اليوم حيث تنتشر أسلحة الدمار الشامل على نطاق واسع.

الأسباب الاقتصادية للحرب

ضمن مناقشات الأممية الأولى، صاغ سيزار دو بايب، أحد قادتها الأساسيين، ما بات يعرف بالموقف الكلاسيكي للحركة العمالية حيال مسألة الحرب: أي، أن الحروب لا مهرب منها في ظل نظام الانتاج الرأسمالي. في المجتمع المعاصر، لا تنشأ الحروب بسبب طموحات الملوك أو الأفراد الآخرين إنما من النموذج الاقتصادي والاجتماعي المهيمن. جاء الدرس المستفاد من الحركة العمالية أن أي حرب يجب اعتبارها “حرباً أهلية”، [بمعنى تحويلها إلى] صدام شرس بين العمال وبين من حرمهم من الوسائل الضرورية للبقاء على قيد الحياة.

لم يطور ماركس على الإطلاق أي موقف ثابت أو منهجي بشأن الحرب في كتاباته. في كتاب رأس المال، الجزء الأول منه، حاجج أن العنف هو قوة اقتصادية، “قابلة كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد”. لكنه لم يفكر بالحرب باعتبارها طريقاً مختصراً للتحويل الثوري للمجتمع، كان الهدف الأساسي لنضاله السياسي هو أن يلتزم العمال بمبدأ التضامن الأممي.

إلا أن الحرب كانت سؤالاً مهماً بالنسبة لفريدريك إنغلز لدرجة أنه خصص واحدة من كتاباته الأخيرة [1893]. في كتيبه المعنون: “هل يمكن نزع سلاح أوروبا؟” لاحظ أن السنوات الـ 25 الماضية، حاولت كل قوة عظمى التفوق على منافسيها لناحية الاستعدادات العسكرية للحرب. وقد شمل ذلك مستويات غير مسبوقة من إنتاج الأسلحة ما دفع بالقارة العجوز إلى أن تكون أقرب “إلى حرب تدميرية لم يشهدها العالم من قبل”.

وبحسب ما قاله إنغلز: “لقد جرى تطبيق نظام الجيوش الدائمة إلى أقصى الحدود في كل أنحاء أوروبا بحيث سيؤدي إما إلى خراب اقتصادي للشعوب بسبب كلفته الاقتصادية، أو أن يتحول إلى حرب إبادة شاملة”. وقد شدد على أنه يجري الحفاظ على نظام الجيوش الدائمة لأسباب تتعلق بالسياسات الداخلية وفي نفس الوقت لأسباب عسكرية خارجية. وأضاف إنغلز أن الهدف من هذه الجيوش “هو توفير الحماية ليس ضد العدو الخارجي بقدر ما هو حماية [الأنظمة] من العدو الداخلي”، وذلك من خلال تقوية القوى القمعية للبروليتاريا والنضالات العمالية. ولأن الطبقات الشعبية دفعت أكثر من أي فئة أخرى تكاليف الحرب، سواء من خلال الضرائب أو عبر تزويد القوى العسكرية بالمحاربين، على الحركة العمالية النضال من أجل “التخفيض التدريجي لمصطلح الخدمة [العسكرية] بموجب معاهدة دولية” ومن أجل نزع السلاح كسبيل وحيد وفعال لـ”ضمان السلام”.

الاختبارات والانهيارات

لم يمر وقت طويل قبل أن يتحول الجدال النظري في زمن السلم إلى أهم قضية سياسية في العصر. بداية، عارض ممثلو الحركة العمالية أي دعم للحرب حين اندلع النزاع الفرنسي البروسي (الصراع الذي سبق كومونة باريس) عام 1870. وأدان نائبا الحزب الاشتراكي الديمقراطي ويلهلم ليبكنخت وأوغوست بيبل أهداف ألمانيا البسماركية التوسعية وصوتا ضد اعتمادات الحرب. وكان قرارهما “رفض مشروع القانون للحصول على تمويل إضافي لمتابعة الحرب” وقد أدى موقفهما هذا إلى سجنهما لمدة عامين بتهمة الخيانة العظمى، إلا أنهما ساعدا في إظهار للطبقة العاملة طريقة بديلة للبناء على الأزمة.

وفي وقت استمرت القوى الأوروبية العظمى بتوسعها الامبريالي، اكتسب الجدال حول الحرب وزناً كبيراً في مناقشات الأممية الثانية. فجاء القرار الذي تبناه المؤتمر التأسيسي ليكرس السلام كـ”شرط مسبق لا غنى عنه لأي تحرر عمالي”.

ولأن السياسة العدوانية للإمبراطورية الألمانية (Weltpolitik) قد غيرت الوضع الجيوسياسي، غرست في الوقت عينه المبادئ المناهضة للعسكرة جذوراً عميقة في الحركة العمالية وأثرت على المناقشات حول النزاعات المسلحة. لم يعد ينظر إلى الحرب بكونها مجرد تسريع لانهيار النظام (فكرة يسارية تعود إلى أيام شعار ماكسيميليان روبسبيير: “لا ثورة من دون ثورة”). إنما بات ينظر إليها كخطر له نتائج كارثية على البروليتاريا، مثل الفقر والجوع والبطالة.

لخص القرار حول “العسكرة والصراعات الدولية”، الذي تبناه مؤتمر الأممية الثانية في شتوتغارت عام 1907، كل النقاط الأساسي التي باتت تراثاً للحركة العمالية. من بينها التصويت ضد اعتمادات الحرب التي تزيد الإنفاق العسكري، رفض الجيوش الدائمة، وتفضيل نظام الميليشيات الشعبية.

مع مرور السنوات، ومع تراجع التزام الأممية الثانية بالسلام، ومع حلول زمن الحرب العالمية الأولى، صوتت غالبية الأحزاب الاشتراكية لدعمها- هذا المسار كان له نتائج بالغة السوء. بحجة أن “فوائد التقدم” لا ينبغي أن يحتكرها الرأسماليون، جاءت الحركة العمالية حتى تشارك في الأهداف التوسعية للطبقات الحاكمة وأغرقت بالأيديولوجيا القومية. بهذا المعنى، أثبتت الأممية الثانية أنها عاجزة عن مواجهة الحرب، وتخلت عن هدفها في الحفاظ على السلام.

ضد هذا المشهد، كانت روزا لوكسمبورغ وفلاديمير لينين من أكثر المعارضين للحرب. بوضوح ومبدئية، أظهرت لوكسمبورغ كيف أن العسكرة هي العامود الفقري للدولة وناضلت حتى يصبح شعار “الحرب على الحرب” الشعار “الأساسي لسياسات الطبقة العاملة”. وكما كتبت في كتاب أزمة الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا، فإن الأممية الثانية قد انقسمت لأنها فشلت في “تحقيق تكتيك ونضال مشترك للبروليتاريا في كل الدول”. مذاك، أصبح “الهدف الأساسي” للبروليتاريا هو “محاربة الامبريالية وتجنب الحروب، خلال فترات السلام كما في الحرب”.

في كتيبه الاشتراكية والحرب– واحد من كتاباته خلال الحرب العالمية الأولى- كان للينين الفضل العظيم في إظهار مسألتين أساسيتين. الأولى متعلقة بـ”التزوير التاريخي” حيث مهما حاولت البرجوازية أن تعطي لما كان يحصل “معنى تقدمي للتحرر الوطني” في حين كانت في الواقع حروباً لـ”النهب”.

الثانية، كانت إخفاء التناقضات من قبل الاشتراكيين الإصلاحيين الذين استبدلوا الصراع الطبقي بادعاءات تتعلق “بفتات الفوائد التي تجنيها بواسطة البرجوازيات الوطنية خلال نهب الدول الأخرى”. أشهر أطروحة في كتيبه- أنه على الثوار رفع شعار “تحويل الحرب الامبريالية إلى حرب أهلية”- تفرض على الذين يريدون تحقيق “سلام ديمقراطي دائم” أن يناضلوا من أجل شن “حرب أهلية ضد حكوماتهم والبرجوازية”. كان لينين مقتنعاً بما أثبت التاريخ عدم دقته: أن أي صراع طبقي خلال الحرب سيؤدي “من دون شك” إلى خلق روح ثورية بين الجماهير.

خطوط التماس

لم تنتج الحرب العالمية الأولى انقسامات فقط ضمن الأممية الثانية إنما أيضاً وسط الحركة الأناركية. ففي مقال كتبه بعد نشوب النزاع، كتب بيتر كروبوتكين أن “مهمة أي شخص تعنيه فكرة التطور الإنساني هو أن يسحق الاجتياح الألماني لغربي أوروبا”.

في رده على كروبوتكين، حاجج الأناركي إريكو مالاتيستا أنه، وعلى الرغم من عدم كونه سلامياً وعلى الرغم من كامل المشروعية بحمل السلاح في حرب تحريرية، ليست الحرب العالمية- كما كانت تشدد البرجوازية- صراعاً من “أجل الصالح العالم ضد العدو المشترك” للديمقراطية إنما هي مثال إضافي لقمع الطبقة الحاكمة للجماهير العمالية. كان مدركاً أن “النصر الألماني سيؤدي من دون شك إلى انتصار العسكرة، ولكن كذلك انتصار الحلفاء يعني هيمنة روسية-بريطانية على أوروبا وآسيا”.

في بيان الـ 16، أيد كروبوتكين الحاجة إلى “مقاومة المعتدي عندما يشكل دماراً لكل آمالنا في التحرر”. فانتصار الوفاق الثلاثي ضد ألمانيا سيكون أهون الشرين ولن يسبب أي شيء لتقويض الحريات الموجودة. من جهة ثانية، أعلن مالاتيستا ورفاقه الموقعون على المانيفستو الأناركي الأممي المناهض للحرب: “لا يمكن التمييز بين الحروب الهجومية وتلك الدفاعية”. أكثر من ذلك، أضافوا: “أنه لا يحق لأي من المتحاربين الادعاء بالمطالبة بالحضارة، كما لا يحق لأي منهم التحجج بالدفاع المشروع عن النفس”. بالنسبة إلى مالاتيستا، وإيما غولدمان، وفريديناند نيوينهويس، والأغلبية العظمى من الحركة الأناركية، كانت الحرب العالمية الأولى حلقة أخرى في الصراع بين الرأسماليين من مختلف القوى الامبريالية، والتي كانت تحصل على حساب الطبقة العاملة. من دون “لكن” أو “إنما” أصروا على الشعار التالي: “لا أحد ولا قرش للجيش”، ورفضوا بشدة أي دعم، حتى غير مباشر، لاستمرار الحرب.

كما أثارت المواقف تجاه الحرب جدالاً داخل الحركة النسوية. شجعت حاجة النساء للحلول مكان الرجال المجندين في الوظائف- بأجور قليلة وظروف عمل استغلالية للغاية- لدعم الحرب من جزء كبير من الحركة المؤيدة لحق النساء بالاقتراع الحديثة الولادة. بعض القائدات ذهبن بعيداً بحيث رفعن العرائض المطالبة بتعديل القوانين بحيث يتاح للنساء التطوع في الجيش. رغم ذلك، استمرت العناصر الأكثر راديكالية في مناهضة الحرب. عملت النسويات الشيوعيات على فضح الحكومات المخادعة، والتي كانت تستغل الحرب للتراجع عن الإصلاحات الاجتماعية الأساسية.

كانت كلارا زيتكين وألكسندرا كولونتاي وسيلفيا بانكهورست، وطبعا روزا لوكسمبورغ من بين الأوائل اللواتي انطلقن بشكل واضح وشجاع على الطريق الذي سيظهر للأجيال الآتية كيف أن النضال ضد العسكرة كان أساسياً في النضال ضد البطريركية. لاحقاً، أصبح رفض الحرب عنصراً مميزاً من يوم المرأة العالمي، وظهرت معارضة موازنات الحرب عند اندلاع أي نزاع جديد بشكل بارز ضمن العديد من منصات الحركة النسائية العالمية.

مع صعود الفاشية واندلاع الحرب العالمية الثانية، تصاعد العنف بشكل أكبر. بعد أن هاجمت قوات أدولف هتلر الاتحاد السوفياتي عام 1941، أصبحت الحرب الوطنية الكبرى التي انتهت بهزيمة النازية عنصراً أساسياً في تشكل الوحدة الوطنية الروسية التي نجت بعد سقوط جدار برلين واستمرت حتى اليوم.

مع انقسام العالم إلى كتلتين، أدرك جوزف ستالين أن المهمة الأساسية للحركة الشيوعية العالمية كانت حماية الاتحاد السوفياتي. فجاء إنشاء منطقة عازلة من 8 دول من أوروبا الشرقية ركيزة أساسية لهذه السياسة. منذ عام 1961، وتحت قيادة نيكيتا خروتشيف، بدأ الاتحاد السوفياتي مساراً سياسياً جديداً بات معروفاً باسم “التعايش السلمي”. ورغم ذلك، إن هذه المحاولة في التعاون البنّاء كانت متجهة نحو الولايات المتحدة فقط، وليس إلى الدول “الاشتراكية القائمة فعليا”.

كان الاتحاد السوفياتي قد سحق الثورة المجرية بوحشية عام 1956. كما قام بالأمر عينه في تشيكوسلوفاكيا. فبمواجهة مطالب الدمقرطة خلال “ربيع براغ” قرر المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي بالإجماع إرسال نصف مليون جندي وآلاف الدبابات. أوضح ليونيد بريجنيف القرار بالإشارة إلى ما سماه “السيادة المحدودة” لدول تحالف وارسو: “عندما تحاول القوى المعادية للاشتراكية تحويل تطور بعض الدول الاشتراكية نحو الرأسمالية، فإنها لا تصبح مشكلة للبلد المعني فحسب، إنما هي مشكلة مشتركة تعني كل الدول الاشتراكية”. وبحسب المنطق المعادي للديمقراطية، فإن تعريف ما كان وما لم يكن “اشتراكياً” يرجع بطبيعة الحال إلى القرار التعسفي للقادة السوفيات.

مع اجتياح أفغانستان عام 1979، بات الجيش الأحمر من جديد أداة أساسية لسياسة موسكو الخارجية، والتي استمرت بالمطالبة بالحق بالتدخل فيما وصفته بـ”المنطقة الأمنية الخاصة بها. لم تؤدِ هذه التدخلات العسكرية إلى تخفيض عام للتسلح فحسب إنما كذلك شوهت سمعة الاشتراكية وأضعفتها عالمياً. كان ينظر على نحو متزايد إلى الاتحاد السوفياتي على أنه قوة امبريالية تتصرف بطرق لا تختلف عن تلك التي تقوم بها الولايات المتحدة، والتي، دعمت سراً إلى هذا الحد أو ذاك الانقلابات وساعدت في الإطاحة بالحكومات المنتخبة ديمقراطياً في أكثر من 20 دولة في العالم.

أن تكون يسارياً يعني أن تكون ضد الحرب

مع نشوب الحرب الروسية-الأوكرانية، يواجه اليسار من جديد مسألة كيفية اتخاذ موقف حين تتعرض سيادة دولة للهجوم. من الخطأ أن ترفض حكومات مثل فنزويلا إدانة الاجتياح. وهذا ما سيجعل إدانة أعمال عدوانية مستقبلية ومحتملة تشنها الولايات المتحدة يبدو أقل مصداقية. يمكن تذكر كلمات لينين في الثورة الاشتراكية وحق الشعوب في تقرير مصيرها:

“إن حقيقة أن النضال من أجل التحرر الوطني ضد قوة امبريالية، يمكن أن تستعمله، في ظل ظروف معينة، قوة “عظمى” أخرى خدمة لمصالحها الامبريالية، يجب ألا يؤدي إلى حث الاشتراكية الديمقراطية على التخلي عن اعترافها بحق الشعوب بتقرير مصيرها”.

لقد أيد اليسار تاريخياً مبدأ حق الشعوب بتقرير مصيرها ودافع عن حق الدول في رسم حدودها انطلاقاً من الإرادة الصريحة لشعبها. وفي إشارة مباشرة إلى أوكرانيا، وفي نتائج المناقشة حول الحق بتقرير المصير، حاجج لينين:

“إذا انتصرت الثورة الاشتراكية في بتروغراد وبرلين ووارسو، فإن الحكومة الاشتراكية البولندية كالحكومتين الاشتراكيتين الروسية والألمانية، ستتخلى عن “الاحتفاظ القسري” للأوكرانيين، على سبيل المثال، داخل حدود الدولة البولندية”.

لماذا نقترح، إذاً، التنازل عن أي شيء مختلف للحكومة القومية بقيادة فلاديمير بوتين؟

من ناحية أخرى، استسلم الكثير من اليساريين لإغراء أن يكونوا- سواء مباشرة أو غير مباشرة، مشجعين على التحارب ومغذين لقيام “الوحدة الوطنية”. مثل هذا الموقف اليوم يزيل الفروق بين الأطلسية والسلامية. يظهر التاريخ أنه عندما لا تعارض الحرب، تفقد بذلك القوى التقدمية جزءاً أساسياً من سبب وجودها وينتهي بها الأمر إلى ابتلاع أيديولوجية المعسكر التي تناهضه. يحدث ذلك عندما تجعل الأحزاب اليسارية من وجوده افي الحكومة الدافع الأساسي لعملها السياسي- كما فعل الشيوعيون الإيطاليون في دعم تدخلات الناتو في كوسوفو وأفغانستان، أو كما يفعل الكثيرون اليوم مثل أونيداس بوديموس الذي انضم إلى الجوقة في البرلمان الاسباني المؤيدة لإرسال أسلحة إلى الجيش الأوكراني.

البونابرتية ليست الديمقراطية

خلال تحليله للحرب بالقرم، عام 1854، عارض ماركس الديمقراطيين الليبراليين الذين أيدوا التحالف المناهض لروسيا:

“من الخطأ وصف الحرب ضد روسيا بأنها حرب بين الحرية والاضطهاد. بغض النظر عن واقع أنه إذا كان الأمر هو كذلك، إن الحرية ستكون للغير الذين يمثلهم بونابرت، إن الهدف المعلن للحرب هو الحفاظ… على معاهدة فيينا- المعاهدة التي هي نفسها تلغي حرية واستقلال الأمم”.

إذا استبدلنا بونابرت بالولايات المتحدة ومعاهدات فيينا بالناتو، ستبدو هذه الملاحظات كما لو أنها كتبت اليوم.

في الخطاب المهيمن الحالي، غالباً ما يتهم أولئك الذين يعارضون القومية الروسية والأوكرانية، إضافة إلى معارضتها[ي] لتوسع الناتو، بالتردد السياسي أو بالسذاجة. ولكن هذا ليس هو واقع الحال. إن موقف أولئك الداعين إلى سياسة عدم الانحياز هو الطريقة الأكثر فعالية لإنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن وضمان عدم سقوط المزيد من الضحايا. من الضروري مواصلة النشاط الديبلوماسي انطلاقاً من نقطتين أساسيتين: وقف التصعيد العسكري وحياد أوكرانيا المستقلة.

أكثر من ذلك، على الرغم من تزايد الدعم للناتو في كل أنحاء أوروبا منذ بدء اجتياح روسيا لأوكرانيا، فمن الضروري العمل بجدية أكبر للتأكد من أن الرأي العام لا يرى في أكبر آلة حرب وأكثرها عدوانية في العالم- أي الناتو- كحل لمشاكل الأمن العالمي. يجب التأكيد على أنها منظمة خطيرة وغير فعالة، بحيث تعمل، في سعيها إلى التوسع والسيطرة الأحادية، على زيادة التوترات المفضية إلى الحروب في العالم.

بالنسبة لليسار، لا يمكن أن تكون الحرب “استمراراً للسياسة بوسائل أخرى”، إذا استعدنا قول كارل فون كلاوزفيتز الشهير. في الواقع، إنها تدل فقط على فشل السياسة. إذا كان اليسار يرغب بأن يصبح مهيمناً وأن يظهر على أنه قادر على استعمال تاريخه لمهام الحاضر، عليه أن يكتب على راياته شعارات مثل “ضد العسكرة” و”لا للحرب!”.

Categories
Journal Articles

جوانب جديدة لماركس

1-إحياء ماركس:
لأكثر من عقد من الزمان وحتى الآن ، تصف الصحف والمجلات المنتشرة و المرموقة كارل ماركس بالمنظّر الثاقب ممن تلاقي أفكاره التأييد المستمر.
ويؤكد العديد من الكتّاب ذوي الآراء التقدمية أن أفكاره لا غنى عنها لأي شخص يؤمن بضرورة بناء بديل آخر للرأسمالية .و في كل مكان تقريبا، أصبح هو موضوع المقررات الجامعية والمؤتمرات العالمية. و عادت كتاباته ، سواء ما تم إعادة نشره أو ما صدر في طبعاتٍ جديدة, بالظهور على رفوف المكتبات . و اكتسبت دراسة أعماله ، بعد تجاهل دام لعشرين عاما، الكثير من الزخم المتزايد. غير أنّ العامين 2017 و 2018 جلبا المزيد من الاهتمام لـ ” احياء ماركس” وذلك بفضل المبادرات العديدة حول العالم والمتعلقة بالذكرى السنوية لمرور150 عاما على نشر كتاب رأس المال والذكرى المئوية الثانية لميلاد ماركس.

أفكار ماركس غيرت العالم . على الرغم من تحقق نظريات ماركس التي تحولت إلى أيديولوجيات مهيمنة ومذاهب دولة لجزء كبير من البشرية في القرن العشرين، إلا أنه لا يوجد إصدار لكامل أعماله ومخطوطاته. يكمن السبب الرئيسي لهذا في الطابع غير المكتمل لأعمال ماركس: كتاباته غير المكتملة أكثر بكثير من أعماله المنشورة ، ناهيك عن مجموعة المذكرات الضخمة المتعلقة بأبحاثه المتواصلة .ترك ماركس مخطوطات تتجاوز أعدادها ما أرسله للمطابع. طريقته الصارمة و نقده القاسي لنفسه زاد من صعوبة التزامه بمشاريعه ، كما أن الفقر المدقع الذي عاش فيه أحيانا و صحته الواهنة ضاعفت من مشقّاته اليومية . لكن شغفه المعرفي لم يتغير مع مرور الوقت ودفعه دائماً لدراسة جديدة. ومع ذلك فإن جهوده المتواصلة سيكون لها آثار نظرية مدهشة على المستقبل.

ولعل القيمة الخاصة لإعادة تقييم إنجازات ماركس تكمن في استئناف نشر كتاب ماركس-انغلز ( ميغا2) في عام 1998 وهي الإصدار التاريخي النقدي للأعمال الكاملة لماركس وفردريك انغلز. وقد ظهر فعلا 28 مجلد (40 مجلد تم نشرهم بين العام 1975 و1989) والبقية في طور الإعداد. ميغا2 مقسم الى 4 أجزاء: 1-جميع الأعمال، المقالات والمسودات التي كتبها ماركس وانغلز( باستثناء رأس المال) 2-رأس المال وكافة مواده التحضيرية 3- المراسلات وتتكون من 4 آلاف رسالة لماركس وانغلز و 10 آلاف كُتبَت لهم من قبل آخرين وهو عدد كبير ينشر لأول مرة في ميغا2 4-المقتطفات و الشروحات و الملاحظات الهامشية. القسم الرابع هو شاهد على أعمال ماركس الموسوعية الحقيقية : فمنذ أن كان في الجامعة لازمته عادة جمع مقتطفات من الكتب التي يقرأها و يتخللها مرئياته التي سجلها. يقرب ورث ماركس الأدبي من مائتي دفتر ملاحظات. وهي أساسية لفهم نشأة نظريته و لتلك العناصر التي لم يتمكن من تطويرها كما أراد. المقتطفات الباقية تغطي المدة الزمنية من 1838 الى 1882 و كتبت بثماني لغات ( الألمانية واليونانية القديمة واللاتينية والفرنسية والانجليزية والايطالية والاسبانية والروسية) وتشير إلى أكثر المجالات تنوعا. تم أخذها من أعمال الفلسفة وتاريخ الفن والدين والسياسة والقانون والأدب والتاريخ والاقتصاد السياسي والعلاقات الدولية والتكنولوجيا والرياضيات والفسيولوجيا والجيولوجيا وعلم المعادن وعلم الزراعة والأنثروبولوجيا والكيمياء والفيزياء- ولم تضم فقط الكتب ومقالات الصحف والمجلات بل محاضر برلمانية و إحصائيات وتقارير حكومية. هذا المستودع الهائل من المعرفة الذي نُشِرَ أغلبه في السنوات الأخيرة أو بقي في انتظار الطباعة ، كان موقع البناء لنظرية ماركس النقدية ، وميغا2 أتاح الوصول له لأول مرة.

هذه المواد القيّمة -الكثير منها متاح فقط باللغة الألمانية لذا بقيت محصورة في أوساط محدودة من الباحثين – تُظْهِر لنا كاتباً مختلفاً جدًا عن الذي قدمه لنا عدد هائل من النقاد وممن يزعمون أنفسهم من تلاميذه .هذه المقتنيات النصية الجديدة في ميغا2 تمكننا من قول، أنه من بين جميع كلاسيكيات الفكر السياسي والاقتصادي والفلسفي ،ماركس هو المؤلف الذي تغيرت صورته أكثر في بداية العقود الأولى للقرن الواحد والعشرين. ولعل الإطار السياسي الجديد الذي تبع انهيار الاتحاد السوفيتي ساهم في تكوين هذا المنظور الجديد. فانتهاء الماركسية اللينينية حررت أعمال ماركس من قيود أيديولوجية بعيدة عن مفهومه الخاص للمجتمع.

دحضت الأبحاث الحديثة الكثير من الأطروحات التي قلّصت مفهوم ماركس للمجتمع الشيوعي إلى تطور متفوق للقوى الإنتاجية. على سبيل المثال ،أظهرت الاهمية التي يعطيها للمسألة البيئية: في مناسبات عديدة، أدان حقيقة أن توسع نمط الإنتاج الرأسمالي ليس فقط سرقة متزايدة لجهد العمال، لكنه أيضا يزيد من نهب الموارد الطبيعية. و ذهب ماركس لأبعد من ذلك في كثير من المسائل في أعماله ، والتي عادة ما يتم التقليل من شأنها أو حتى تجاهلها من قبل الباحثين، إلا أنها نالت أهمية كبرى للأجندة السياسية في وقتنا الحالي. ومن بينها الحرية الفردية في الاقتصاد و السياسة ،و التحرر الجندري، و نقد القومية، و الامكانيات التحررية للتكنولوجيا ،وأشكال الملكية الجماعية غير المحكومة من الدولة. لذا بعد ثلاثين عاما من سقوط جدار برلين ،أصبح من الممكن قراءة ماركس بشكل مختلف عن المنظّر الدوغمائي والاقتصادي، والمتمركز حول أوروبا والذي تم تقديمه بهذا الشكل لسنوات طويلة.

2-الاكتشافات الجديدة حول نشأة المفهوم المادي للتاريخ:
في فبراير 1845 بعد 15 شهراً صعباً في باريس، والتي كانت فعّالة في تكوين فكره السياسي، أُجْبِر ماركس على الإنتقال إلى بروكسل حيث سُمِح له بالإقامة بشرط “ألا ينشر شيئا عن السياسة الحالية” ( ماركس1975:ص 677). أثناء الثلاث سنوات التي قضاها في العاصمة البلجيكية، واصل دراساته عن الاقتصاد السياسي بشكل مثمر ،وتوصل لفكرة الكتابة مع انغلز و جوزيف ويدمير وموزس هيس ” نقد الفلسفة الألمانية الحديثة كما شرحها ممثليها” لودفيغ فيورباخ ،و برونو باور وماركس شتيرنر و “الاشتراكية الألمانية كما شُرِحَت من قبل أنبيائها المتنوعين” (ماركس 1976: 72). الكتاب الناتج الذي تم نشره بعد وفاتهم بعنوان “الأيديولوجية الألمانية” كان له هدفان: محاربة الاشكال الجديدة من ” النيوهيغلية” في ألمانيا، ثم كما كتب ماركس للناشر كارل فيلهيلم يوليوس ليسكه بتاريخ الأول من أغسطس 1846 ” لإعداد العامة لوجهة النظر المتبناة في ” الاقتصاد” التي تتعارض تماماً مع الدراسات الألمانية السابقة والحالية” ( ماركس وانغلز1982:50 ماستو 2018:57). هذه المخطوطة، التي عمل عليها حتى يونيو 1864 لم تكتمل، لكنها ساعدت على التوضيح بشكل أفضل من قبل -وإن لم تكن بشكل نهائي- ما قدمه انغلز للجمهور الأوسع بعد 40 عاما ، كـ ” مفهوم المادية التاريخية”( انغلز 1990أ:519)الطبعة الاولى من الأيديولوجية الالمانية نُشِرت عام 1932 و الطبعات اللاحقة التي تضمنت تعديلات طفيفة أُرْسِلَت للطباعة بشكل كتاب كامل. خلق محررو هذه المخطوطة الناقصة انطباع خاطئ بأنّ الايديولوجية الالمانية تضمنت فصل افتتاحي أساسي عن فيورباخ حيث وضع ماركس وانغلز بشكل كامل قوانين مفهوم “المادية التاريخية” (مصطلح لم يستخدمه ماركس)وكما أشار التوسير هنا حيث تصوروا هذا المفهوم هو “انفصال معرفي واضح” عن كتاباتهم السابقة( التوسير 1996:33) وسرعان ما أصبحت الايديولوجية الالمانية أهم النصوص الفلسفية للقرن العشرين. وفقا لهنري لوفيفر(1968:71) فقد وضع ” الأطروحة الأساسية للمادية التاريخية”. اعتقد ماكسيم روبل (1980:13) أنّ هذه ” المخطوطة تضم بيان واضح للمفهوم النقدي والمادي للتاريخ”. وكان ديفيد ماكليلان(1975:37) مؤيداً بنفس القدر أنها ” ضمّت أكثر وصف مفصل من ماركس لمفهومه المادي للتاريخ.”

يعود الفضل لمجلد 5/1 من ميغا2 , Deutsche Ideologie: Manuskripte und Drucke (1845–1847 (ماركس وانغلز2017:1893 صفحة) يمكن الان تقليص الكثير من الادعاءات وإعادة الأيديولوجية الألمانية الى نقصها الاصلي. هذه الطبعة- التي تحوي 17 مخطوطة بإجمالي 700 صفحة وأدوات نقدية من 1200 صفحة تقدم العديد من التنوعات و التصحيحات التأليفية و توضح منشأ كل قسم – وتؤسس بشكل نهائي السمة الجزئية للنص . إن مغالطة ” الشيوعية العلمية” في القرن العشرين وحوسلة الأيديولوجية الألمانية تستحضر للذهن جملة وجدت بالنص نفسه. ونظراً لنقدها القاطع للفلسفة الألمانية إبان حياة ماركس، بدت ايضاً كتحذير لاذع ضد النزعات التفسيرية المستقبلية : ” ليس فقط في إجاباتها بل حتى في أسئلتها كان هناك غموض” ( ماركس وانغلز 19776:28) وفي نفس الفترة الزمنية ، وسّع الشاب الثوري مولود ترير الدراسة التي بدأها في باريس. في عام 1845، أمضى شهري يوليو و اغسطس في مانشستر يتقصّى أعمال الاقتصاد الانجليزية الهائلة ويجمع 9 كتب من المقتطفات ( ما يسمى دفاتر مانشستر) وغالباً ما كانت من أدلة الاقتصاد السياسي وكتب عن التاريخ الاقتصادي. يضم مجلد ميغا2 4/4(Exzerpte und Notizen Juli bis August 1845 experbcfc ) ) ( ماركس وانغلز 19888) أول خمسة من هذه الدفاتر مع 3 كتب لملاحظات انغلز من نفس الوقت في مانشستر. المجلد 4/5 Exzerpte und Notizen Juli 1845 bis Dezember 1850 (ماركس وانغلز2015: 650 صفحة) أكمل سلسلة النصوص هذ، وأتاح للباحثين الأجزاء التي لم يسبق نشرها . فقد ضمت دفاتر 6،7،8،9 والتي تحوي مقتطفات ماركس من 16 عملاً في الاقتصاد السياسي. جاءت أغلب هذه المجموعة من كتاب جون فرانسيس براي ” أخطاء العمل ومعالجة العمل ” 1839 و أربع نصوص لروبرت اوين، و بالتحديد كتابه ” العالم الأخلاقي الجديد”1849 ، وجميعها أظهرت اهتمام ماركس الكبير في الاشتراكية الإنجليزية واحترامه العميق لأُوين ، كاتب اعتبره الكثير من الماركسين “طوباوي”. ويُخْتَم المجلد بعشرين صفحةٍ كتبها ماركس بين 1846 و 1850 بالإضافة لملاحظات انغلز الدراسية من نفس الفترة الزمنية.

هذه الدراسات للنظرية الاشتراكية و الاقتصاد السياسي لم تكن عائقًا أمام العمل السياسي المعتاد لماركس وانغلز. الثمانمائة صفحة وأكثر المنشورة حديثاً من مجلد 1/7 Werke, Artikel, Entwürfe, Februar bis Oktober 1848 ( ماركس وانغلز 2016: 1294 صفحة) تجعلنا نقدّر حجم هذا العمل في عام 1848 وهي أكثر الأعوام استنزافاً للنشاط السياسي و الصحفي في حياة كتّاب بيان الحزب الشيوعي. بعد حركة ثورية استثنائية المستوى والزخم دفعت بالنظام الاجتماعي والسياسي في أوروبا لأزمة، قامت الحكومات بكل الترتيبات المضادة الممكنة لإنهاء التمرد. وعانى ماركس نفسه من التبعات حيث تم نفيه من بلجيكا في شهر مارس. وفي الوقت ذاته، تم الإعلان عن الجمهورية في فرنسا، و دعا فيرديناند فلوكون، وزير في الحكومة المؤقتة ماركس للعودة إلى باريس” عزيزي النبيل ماركس، الطغيان نفاك، لكن فرنسا الحرة ستفتح أبوابها لك” وبطبيعة الحال، ترك ماركس دراساته السياسية الاقتصادية جانباً وعمل كصحفي ناشط لدعم الثورة مساعداً في رسم مسار سياسي مقترح . وبعد فترة قصيرة في باريس ، انتقل في ابريل الى راينلاند وبعد شهرين بدأ بتحرير جريدة ” Neue Rheinische Zeitung” التي تم تأسيسها أثناء ذلك في كولونيا. وشنّت الصحيفة حملة قوية في أعمدتها، و وقفت وراء قضية المتمردين ودفعت البروليتاريا لتعزيز “الثورة الاجتماعية والجمهورية” ( ماركس 1977:178)

نُشِرَت أغلب المقالات في Neue Rheinische Zeitung بشكلٍ مجهول. إحدى ميزات الميغا2 مجلد 1/7 أنها نسبت 36 نص لكتّابها سواء ماركس أو انغلز ، في حين أن المجموعات السابقة لم تُثبت لنا هوية الكُتّاب. 125 من أصل 275 نشرت لأول مرة في إصدار من أعمال ماركس وانغلز . كما يضم الملحق 16 وثيقة شيّقة تحتوي بعض القصص لنقاشاتهم في اجتماعات رابطة الشيوعيين و تجمعات الجمعية الديمقراطية لكولونيا ونقابة فييّنا. سيجد المهتمون في نشاط ماركس السياسي والصحفي أثناء ” عام الثورة “1848” الكثير من المواد النفيسة لإثراء معرفتهم.

3- رأس المال: النقد غير المكتمل:
هُزِمَت الحركة الثورية التي ظهرت في أوروبا عام 1848 في وقتٍ قصير، وفي عام 1849 ، وبعد صدور أمري ترحيل من بروسيا وفرنسا لم يكن لدى ماركس أي خيار إلا أن يشق طريقه عبر البحر. بقي في انجلترا في منفى وبلا جنسية لبقية حياته، غير أن رد الفعل الأوروبي لم يستطع وضعه في مكان أفضل لكتابة نقده للاقتصاد السياسي. في ذلك الوقت كانت لندن هي المركز الاقتصادي والمالي الرائد في العالم، ” آلهة الأكوان البرجوازية” ( ماركس 1978:134) وبالتالي كانت أفضل مكان لدراسة أحدث التطورات الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي. كما أصبح مراسلا لصحيفة نيويورك تريبيون الصحيفة الأكثر انتشارًا في الولايات المتحدة الأمريكية.

انتظر ماركس سنوات عديدة اندلاع أزمة جديدة، وعندما تحقق ذلك عام 1857 كرّس أغلب وقته لتحليل سماتها الرئيسية. مجلد 1/16 Artikel Oktober 1857 bis Dezember 1858 (ماركس وانغلز 2018 :1181 صفحة) يتضمن 84 مقالة نشرها بين خريف 1857 ونهاية عام 1858 في جريدة نيويورك تريبيون وكذلك تلك التي تعبّر عن ردود أفعاله الأولى للأزمة المالية لعام 1857. ” نشرت جريدة الامريكان افتتاحيات يومية غير موقّعة”، لكن البحث لهذا المجلد الجديد من ميغا2 مكن من نسب مقالتين إضافيتين لماركس ، وكذلك إلحاق 4 مقالات تم تعديلها من قبل المحررين و3 أخرى لا يزال كتّابها غير معروفين.

وبدافع الحاجة الشديدة لتحسين ظروفه الاقتصادية إنضّم ماركس كذلك للجنة تحرير الموسوعة الامريكية الجديدة ووافق على كتابة عدد من المقدمات لهذا المشروع (ميغا 2 المجلد 1/6 شمل 39 من هذه المقالات) و بالرغم من الأجر المنخفض جدًا بواقع 2 دولار للصفحة غير أنه يحسّن من وضعه المالّي الكارثّي .كما أنه أسند أغلب العمل لانغلز حتى يتفرغ أكثر لكتاباته الاقتصادية.
كان عمل ماركس في هذة الفتره استثنائي و واسع النطاق . الى جانب التزاماته الصحفية ، من اغسطس 1857 الى مايو 1858 كتب 8 دفاتر المعروفة باسم ” Grundrisse “. كما ألزم نفسه بمهمَة شاقة، دراسة تحليلية للأزمة الاقتصادية الأولى في العالم . مجلد 4/14 Exzerpte, Zeitungsausschnitte und Notizen zur Weltwirtschaftskrise (Krisenhefte), November 1857 bis Februar 1858 ( ماركس 2017:680صفحة) كل هذا يضيف بدقة لمعرفتنا بواحدة من أثرى فترات الإنتاج النظري لماركس. في رسالةٍ لانغلز في18 ديسمبر1857 يَصِف ماركس التدفق الشديد للنشاط:

” أنا أعمل بشكل مكثف حتى الساعة 4 في الصباح يومياً. فقد انخرطت في مهمة ثنائية : 1- تطوير مسودة (Grundrisse) للإقتصاد السياسي ( من أجل الصالح العام لابد من التعمق في الأمر للوصول لجذوره، كما أنه من صالحي شخصياً التخلص من هذا الكابوس)2- الأزمة الحالية . باستثناء مقالات [نيويورك] تريبيون، فكل ما أقوم به الاحتفاظ بسجلات لها والتي تستغرق وقتاً طويلاً. أظنّ أنه بحلول الربيع، قد نتمكن من إصدار كتيب معا حول القضية كتذكير للجماهير الألمانية أننا مازلنا موجودين كما عهدتنا دائمًا، و كما كنا دائمًا( ماركس وانغلز 1983:224)”

وبالتالي كانت خطة ماركس العمل في نفس الوقت على مشروعين: العمل النظري حول نقد نمط الإنتاج الرأسمالي ، وكتاب أكثر دقةً حول تقلبات الازمة الجارية. لهذا السبب، فما سُمّيِت بدفاتر ملاحظات حول الأزمة على عكس سابقتها من المجلدات المشابهة ، لم يقم ماركس بتجميع مقتطفات من أعمال اقتصاديين آخرين فيها بل قام بجمع كمية كبيرة من التقارير الاخبارية عن انهيارات البنوك الرئيسية، وعن تغيرات أسعار سوق الأسهم، والتغيرات في نماذج التجارة ومعدلات البطالة، و الناتج الصناعي. الاهتمام الذي منحه لناتج الصناعة ميّز تحليله عن الآخرين ممن نسبوا الأزمات فقط إلى الخطأ في منح الائتمان وتزايد ظاهرة المضاربة. وزع ماركس ملاحظاته على 3 دفاتر منفصلة . في الأول وهو الأقصر بعنوان ” 1857 فرنسا” جمع البيانات عن تجارة فرنسا والإجراءات الرئيسية التي اتخذها بنك فرنسا . أما الثاني ، كتاب عن أزمة 1857″ كان ضعفّي حجم الأول، وتناول بشكل رئيسي بريطانيا وسوق المال. و في الدفتر الثالث تناول مواضيع مشابهة بشكل أعمق قليلا ” كتاب عن الأزمة التجارية”، حيث شرح ماركس بيانات و مقالات جديدة حول العلاقات الصناعية، و انتاج المواد الخام وسوق العمل.

كان عمل ماركس حازماً كعادته : فقد نسخ من أكثر من دزينة مجلات و صحف، بالترتيب التاريخي، الأجزاء الأكثر تشويقاً لعدد هائل من المقالات وأي معلومات أخرى استطاع إستخدامها لتلخيص الأحداث. مصدره الأساسي كان ذا ” اكونومست” – وهي مجلة إسبوعية استقى منها نصف ملاحظاته تقريباً – بالرغم من أنه كثيرًا ما أخذ من “مورنينق ستار”، “مانشستر غارديان: و “ذا تايمز”. كل المقتطفات تم كتابتها باللغة الانجليزية. في تلك الدفاتر ، لم يكتف ماركس بكتابة التقارير الرئيسية المختصة بالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. فقد تتبع أهم الأحداث في الدول الأوروبية الأخرى – خاصة فرنسا وألمانيا والنمسا وإيطاليا وأسبانيا- وأبدى اهتمامًا قويًا في أنحاء أخرى من العالم خاصة الهند والصين والشرق الأقصى ومصر وحتى البرازيل واستراليا.

وبعد مرور عدة أسابيع، تخلى ماركس عن فكرة نشر كتاب عن الأزمة وركز كل طاقاته على العمل النظري و نقد الاقتصاد السياسي الذي من وجهة نظره لا يحتمل أي مزيد التأخير. وعلى الرغم من ذلك، تبقى دفاتر الملاحظات على الازمة مفيدة في دحض الفكرة الخاطئة عن اهتمامات ماركس الأساسية في تلك الفترة في رسالته لانغلز في 16 من يناير عام 1858 كتب ” بالنسبة للمنهج” المستخدم في عمله ” منطق هيغل كان مفيدًا جدًا له” واضاف انه أراد تسليط الضوء على “جانبه العقلاني”( ماركس وانغلز 1983:249). على هذا الأساس استنتج بعض المفسرون لعمل ماركس أنه عندما كتب Grundrisse أمضى وقتًا طويلًا يدرس الفلسفة الهيغلية. لكن نَشْر مجلد 4/14 يوضح أن اهتمامه الأساسي في ذاك الوقت كان التحليل التجريبي للأحداث المرتبطة بالأزمة الاقتصادية الكبرى التي تنبأ بها قبل وقت طويل.

. جهود ماركس الدؤوبة لإنهاء ” نقد الاقتصاد السياسي ” هي الموضوع الرئيسي لمجلد 3/12 Briefwechsel, Januar 1862 bis September 1864 ( ماركس وانغلز 2013:1529 صفحة) الذي يحوي مراسلاته من بداية 1862 حتى تأسيس رابطة العمال الأممية .ومن 425 رسالة متبقية ، منها 112 كان بين انغلز وماركس و35 منها كتبت له، و 278 تلقّاها من آخرين .(227 من هذه المجموعة يتم نشرها لأول مرة ) الاضافة الاخيرة – الفرق المهم بين كل الطبعات السابقة- تحتوي على كنز حقيقي دفين للقراء المهتمين، حيث تقدم ثروة من المعلومات الجديدة حول الأحداث والنظريات التي تعلمها ماركس وانغلز من النساء والرجال الذين شاركوهم الالتزام السياسي.

ومثل كل مجلدات ميغا2 من المراسلات ، ينتهي هذا أيضًا بسجل الرسائل المرسلة أو المكتوبة لماركس وانغلز والتي لم تترك إلا آثار تشهد بوجودها. وصل عددها 125 تقريبًا ، أي ربع العدد الذي بقي، ويشمل 57 رسالة مكتوبة بشكل كامل من قبل ماركس . وفي هذه الحالات، حتى أشد الباحثين لا يستطيع إلا التكهّن بافتراضات تخمينية مختلفة.

من بين أهم النقاط الرئيسية في النقاشات في مراسلات ماركس من بداية 1860 كانت الحرب الاهلية الامريكية، والثورة البولندية ضد الاحتلال الروسي، وولادة الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني المستوحى من مبادئ فرديناند لاسال. ومع ذلك، كان الموضوع متكرر الطرح هو صراعه من أجل أن يتقدم في كتابه رأس المال.

أثناء تلك الفترة بدأ ماركس في مرحلة بحث جديدة : “نظريات فائض القيمة”. وفي أكثر من 10 دفاتر ، قام بتحليل اطروحة اقتصاديين مهمين ممن سبقوه، وكانت فكرته الرئيسية أن ” اشترك جميع الاقتصاديين في نفس الخطأ في دراسة فائض القيمة ليس فقط في شكلها المحض بل في الأشكال الخاصة بالربح والريع”( ماركس 1988:348) أثناء ذلك، ساءت ظروف ماركس الاقتصادية . في 18 يونيو 1862 كتب لانغلز ” في كل يوم زوجتي تخبرني أنّها تتمنى أن تكون هي والاطفال في قبورهم آمنين ، وأنا حقا لا ألومها، لأن المذلة والعذاب والخوف الذي يمر فيه المرء في مثل هذا الموقف لا يوصف فعلا”. كان الموقف صعبا لدرجة أن جيني قررت أن تبيع بعض الكتب من مكتبة زوجها الشخصية- رغم أنها لم تجد من يرغب في شرائها. لكن استطاع ماركس أن يعمل بكد وكتب ملاحظة يعبر فيها عن الارتياح إلى انغلز: ” من الغريب أن أقول إن عقلي يعمل بشكل أفضل في وسط الفقر المحاصر أفضل من مما كان في السنوات السابقة” ( ماركس وانغلز 1985:380) في العاشر من سبتمبر في نفس السنة، كتب ماركس لانغلز أنه قد يحصل على وظيفة ” في مكتب السكّة الحديد” في السنة الجديدة( نفس المصدر 417) في 28 ديسمبر كرر على صديقه لودفيغ كوغلمان أن الامور أصبحت سيئة جدًا حتى أنه قرر أن يكون ” رجل عملي” لكن لم يحدث شيء على أي حال . كتب ماركس بسخريته المعتادة ” لحسن الحظ- أو علي القول لسوء الحظ؟- لم احظى بالعمل بسبب خطي السيء”( نفس المصدر436)

وإلى جانب الضغوطات المالية عانى ماركس كثيرا بسبب المشاكل الصحية . غير أنه من صيف 1863 الى ديسمبر 1865 شرع في المزيد من التحرير للعديد من أجزاء التي قرر تقسيمها في رأس المال. في النهاية، استطاع أن يضع المسودة الأولى للمجلد الأول ،والمخطوطة الوحيدة للمجلد الثالث، التي وضع فيها وصفه الوحيد لعملية الإنتاج الرأسمالي الكاملة : نسخة أولية للمجلد الثاني يحوي العرض العام لعملية تداول رأس المال.

المجلد 2/11 لميغا2 Manuskripte zum zweiten Buch des “Kapitals,”1868 حتى 1881( ماركس وانغلز 2008: 1850 صفحه)يحوي المخطوطات النهائية المخصّصة للمجلد الثاني من رأس المال التي صاغها ماركس بين العامين 1868 و 1881. تسع من هذه مخطوطات لم تنشر من قبل . في أكتوبر 1867 عاد ماركس للكتابة في رأس المال المجلد الثاني لكن المشاكل الصحية المتعددة أجبرته على توقف مفاجئ آخر. بعد عدة أشهر استطاع استئناف العمل، حيث مرت تقريبا ثلاث سنوات على آخر نسخة كتبها. أنهى ماركس الفصلين الأولين خلال ربيع 1868 بالإضافة إلى مجموعة من المخطوطات التحضيرية – حول العلاقة بين فائض القيمة ونسبة الربح وقانون نسبة الربح و وتغيرات رأس المال- الأمر الذي شغله حتى نهاية السنة. انتهت النسخة الجديدة من الفصل الثالث أثناء السنتين التاليتين. ينتهي مجلد 2/11 بعدد من النصوص القصيرة التي كتبها ماركس المسن بين فبراير 1877 وربيع 1881. تعرض مسودات رأس المال للمجلد الثاني التي لم تكن في حالة نهائية ، عدد من المشاكل النظرية. مع ذلك النسخة النهائية من المجلد الثاني نشرها انغلز عام 1885 وهي الآن في المجلد 2/13 في ميغا2 بعنوان Karl Marx: Das Kapital: Kritik der Politischen Ökonomie, Zweiter Band. Herausgegeben von Friedrich Engels, Hamburg 1885 ( ماركس 2008: 800 صفحة)

اخيراً، المجلد 2/4.3 II/4.3, Ökonomische Manuskripte 1863–1868, Teil 3( ماركس 2012: 1056 صفحة) يكمل القسم الثاني من ميغا2 . هذا المجلد الذي يلي 2/4.1 و 2/4.2 في السلسلة السابقة ،يحتوي على 15 مخطوطة لم تنشر بعد من خريف 1867 الى نهاية 1868. سبعة منها هي مسودات لأجزاء من رأس المال المجلد الثالث، لها سمة تجزيئية و لم يتمكن ماركس من تحديثها بطريقة تعكس تطوّر بحثه. وثلاث أخرى مرتبطة بالمجلد الثاني بينما تبحث الخمسة المتبقية أمورا تخص الترابط بين المجلد الثاني والثالث وتتضمن تعليقات على مقتطفات من أعمال آدام سميث و توماس مالتوس . هذه الأخيرة هي مثيرة بالنسبة للاقتصاديين المهتمين في نظرية ماركس لمعدل الربح وأفكاره حول نظرية السعر. أوضحت الدراسات اللغوية المرتبطة بتجهيزات هذا المجلد أن المخطوطة الأصلية لرأس المال المجلد الأول ( اعتبر الفصل السادس : نتائج عملية الإنتاج الفورية ” الجزء المتبقي الوحيد) ترجع في الحقيقة لفترة 1863-64 ، وقام ماركس بقصها ولصقها في النسخة التي أعدها للنشر.

مع نشر ميغا2 المجلد 2/4.3 تم توفير كل النصوص الملحقة لرأس المال من المقدمة الشهيرة المكتوبة في يوليو 1857 أثناء واحدة من أعظم فترات الانهيار في تاريخ الرأسمالية ، إلى آخر جزء كتب في ربيع 188. نحن نتحدث عن 15 مجلد بالإضافة الى المجلدات الملحقة الضخمة التي تشكل أدوات نقد هائلة للنص الرئيسي. و تضمنت كل المخطوطات من أواخر 1850 الى بداية 1860 النسخة الأولى من رأس المال المنشورة في عام 1867( أجزاء منها تم تعديلها في الطبعات اللاحقة) و الترجمة الفرنسية التي راجعها ماركس و ظهرت بين العام 1872 و 1875 وجميع التغيرات التي قام بها انغلز لمخطوطات المجلدين الثاني والثالث. وإلى جانب ذلك ، مجموعة الصناديق الكلاسيكية للمجلدات الثلاثة لرأس المال يظهر حتما بشكل مفصل. ليس من المبالغة القول أنه الآن فقط نستطيع أن نفهم تماما مزايا وحدود ونقص الكتاب العظيم لماركس .

العمل التحريري الذي قام به انغلز بعد وفاة صديقه لاستكمال الاجزاء الناقصة من رأس المال لنشره معقد جدًا. يصل عدد المخطوطات المتنوعة والمسودات وأجزاء من المجلدات الثاني والثالث التي كتبت بين 1864 و 1881 تقريبا الى 2350 صفحة من ميغا2. نشر انغلز المجلد الثاني بنجاح في عام 1885 والمجلد الثالث 1894. لكن لابد أن نضع في الاعتبار أن هذين المجلدين نشآ من تجميع نصوص غير مكتملة وغالبا ما تحتوي مواد متباينة. فقد كتبت على مدى فترات زمنية مختلفة و بالتالي تحتوي على نسخ مختلفة وأحيانا متناقضة مع أفكار ماركس.

4- الأممية، أبحاث ماركس بعد رأس المال وأعمال انغلز النهائية :
مباشرة بعد نشر رأس المال استأنف ماركس نشاطه النضالي و أبدى التزاما مستمرا لعمل رابطة العمال الأممية. هذه المرحلة في سيرته السياسية موثقة في مجلد 1/21 Werke, Artikel, Entwürfe, September 1867 bis März 1871( ماركس وانغلز 2009: 2432 صفحة ) الذي يحوي على أكثر من 150 نص و وثيقة للفترة من 1867 الى 1871 بالإضافة الى 169 محضر اجتماع للمجلس العام في لندن ( حذفت من جميع النسخ السابقة لأعمال ماركس وانغلز) حيث قدم فيها ماركس مداخلة. وهكذا يوفر مواد بحثية للسنوات الحاسمة في حياة الأممية.

منذ الأيام الاولى في 1864 كانت أفكار بيير جوزيف برودون مهيمنة في فرنسا ،والجزء الناطق بالفرنسية في سويسرا وبلجيكا وكان ( المتبادلون) إسم اشتهر به أتباعه – الجناح الأكثر اعتدالا في الأممية. كانوا معادين بقوة لتدخل الدولة في أي مجال، فقد عارضوا اشتراكية الأرض ،ووسائل الإنتاج وكذلك أي استخدام للاحتجاجات كسلاح . نشرت النصوص في هذا المجلد لتوضّح الدور الرئيسي الذي لعبه ماركس في النضال الطويل لتقليل تأثير برودون في الأممية. وهي تشمل وثائق تتعلق بالاستعداد لمؤتمر بروكسل ( 1868) وبازل 1869 حيث قامت الاممية بأول تصريح لها حول الاشتراكية وسائل الإنتاج من قبل سلطات الدولة ، وتأييد إلغاء الملكية الفردية للأرض. ويعتبر هذا بمثابة نصر مهم لماركس والظهور الأول للمبادئ الاشتراكية في البرنامج السياسي لمنظمة عمال كبرى.

وإلى جانب البرنامج السياسي لرابطة العمال الأممية ، كانت أواخر 1860 و بدايات 1870 غنية بالصراعات الاجتماعية. قرر العديد من العمال الذين شاركوا في الاعتصامات التواصل مع الرابطة التي انتشرت سمعتها بشكل كبير، طالبين الدعم لنضالهم . و شهدت هذه الفترة أيضا ولادة أقسام من WMA للعمال الايرلنديين في انجلترا. كان ماركس قلق من الانقسام الذي أحدثته الوطنية العنيفة داخل صفوف البروليتاريا وفي وثيقة أصبحت تعرف بإسم ( الاتصال السري) أكد أن ” البرجوازية الإنجليزية لم تستغل البؤس الايرلندي فقط لتقليص الطبقة العاملة في انجلترا من خلال الهجرة القسرية للايرلنديين الفقراء” بل أثبتت أنها قادرة على تقسيم العمال الى معسكرين معادين ( ماركس 1985:120) من وجهة نظره الأمة التي تَسْتَعبِد أخرى تزيّف عبوديتها” (المرجع نفسه) والصراع الطبقي لم يكن ليتجنب مثل هذا القضية الهامة. وكان الموضوع الرئيسي الآخر في المجلد، الذي تناول باهتمام كبير كتابات انغلز لمجلة “ذا بال مال جازيت” معارضة الحرب الفرنسية البروسية 1870-1871. استمر عمل ماركس في رابطة العمال الأممية من 1864 الى 1872، والمجلد الجديد 3/18 Exzerpte und Notizen, Februar 1864 bis Oktober 1868, November 1869, März, April, Juni 1870, Dezember 1872 ( ماركس وانغلز 2019 : 1294 صفحة) يقدم جزء مجهول حتى الآن للدراسات التي قام بها خلال تلك السنوات. كانت أبحاث ماركس قريبة من وقت طباعة المجلد الأول لرأس المال أو بعد 1867 عندما كان يعد المجلد الثاني والثالث للطباعة. يحتوي مجلد ميغا2 هذا على خمسة كتب من مقتطفات وأربع دفاتر تحتوي على ملخصات لأكثر من مائة عمل منشور وتقرير لمناقشاتٍ برلمانية ومقالات صحفية. الجزء الأكبر والأهم نظريا لهذه المواد يشمل بحث ماركس حول الزراعة واهتمامه الأساسي هنا هو ريع الأرض والعلوم الطبيعية والظروف الزراعية في العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا واليابان والهند ونظام إمتلاك الأرض في المجتمعات ما قبل الرأسمالية.

قرأ ماركس باهتمام الكيمياء بتطبيقها على الزراعة والفسيولوجيا(1843). وهو عمل من قبل العالم الألماني يوستوس فون ليبيغ واعتبره أساسي لأنه يسمح له بتعديل ايمانه السابق ان الاكتشافات العلمية للزراعة الحديثة تحل مشكلة تجديد التربة. ومن بعدها، ابدى اهتماما كبيرا بما نسميه اليوم ” البيئة” خصوصا تآكل التربة وإزالة الغابات. ومن ضمن الكتب الأخرى التي ابهرت ماركس في هذه الفترة، لابد من ذكر كتاب مقدمة التاريخ التأسيسي للمارك الألماني والمزرعة والقرية والبلدة والسلطة العامة (1854) لمؤلفه المنظر السياسي والمؤرخ القانوني جورج لودويغ فون مورير. في رسالة لانغلز في 25 مارس 1868 قال أنه وجد كتب مورير مهمة جدًا لأنها تقدم بشكل مختلف تماما ” ليس فقط العصر البدائي لكن ايضا التطور اللاحق كاملا للمدن الامبريالية الحرة لملاك العقار ممن لديهم الحصانة, والسلطة العامة والصراع بين الفلاحة و القنانة “( ماركس وانغلز 1987: 557). أيّد ماركس مورير في أن الملكية الخاصة في الأرض تنتمي لفترة تاريخية محددة ولا يمكن اعتبارها سمة طبيعية للحضارة الانسانية.

أخي را درس ماركس بعمق ثلاثة أعمال ألمانية لكارل فراس المناخ وعالم الخضار عبر العصور، تاريخ الأثنين 1847 تاريخ الزراعة 1852 وطبيعة الزراعة 1857 وجد أن الأول مثير للاهتمام خاصة الجزء الذي يعرض فيه فراس : إن المناخ والطبيعة يتغيران عبر التاريخ” واصفا المؤلف أنه “داروني قبل داروين” الذي أقر أنه حتى “الفصائل تطورت عبر التاريخ” . وصعق ماركس من اهتمامات فراس البيئية ومخاوفه المتعلقة بأن “الحراثة في شكلها الطبيعي وليس بالتحكم فيها بوعي ( كبرجوازي لا يصل لهذه النقطة ) – تُخَلِّف الصحاري. استطاع ماركس الاكتشاف من كل هذا ” نزعة اشتراكية لا واعية” ( ماركس وانغلز 1987:558-59)

بعد نشر ما يسمى دفاتر حول الزراعة، يمكن الجدال بأدلة أوضح عن قبل أن البيئة قد تكون لعبت دور أكبر في تفكير ماركس لو كانت لديه الطاقة لإنهاء آخر مجلدين من رأس المال . بالطبع كان نقد ماركس البيئي ضد الرأسمالية في اتجاهه وبعيدا عن الآمال التي وضعها في التقدم العلمي ، يتعلق في دراسة انماط الانتاج بشكل عام.

اتضح نطاق دراسات ماركس في العلوم الطبيعية بشكل تام منذ نشر ميغا2 3/26 Exzerpte und Notizen zur Geologie, Mineralogie und Agrikulturchemie, März bis September 1878( ماركس 2011: 1104 صفحة ) في ربيع وصيف 1878 أصبحت الجيولوجيا وعلم المعادن والكيمياء الزراعية أكثر محورية في بحوث ماركس من الاقتصاد السياسي. جمع مقتطفات من عدد من الكتب ومنها التاريخ الطبيعي للمواد الخام للتجارة 1872 للمؤلف جون ييتس وكتاب الطبيعة 1848 للكيميائي فريدريك شودلر وعناصر الكيمياء الزراعية والجيولوجيا 1856 للكيميائي وعالم المعادن جيمس جونستون. وبين يونيو وبداية سبتمبر كان قد انخرط في قراءة دليل الطالب للجيولوجيا لجوزيف جوكس مؤلف دليل الجيولوجيا1857 ( انظر ماركس 2011:139-679) الذي سجل منه اكبر عدد من المقتطفات. التركيز الرئيسي لها حول مسائل المنهجية العلمية ومراحل تطور الجيولوجيا كعلم, وفائدتها للإنتاج الصناعي والزراعي.

مثل هذه الأفكار أيقظت في ماركس الحاجة لتطوير أفكاره حول الربح التي انشغل بها بقوة في منتصف 1860 عندما كتب مسودة جزء ( تحويل فائض الفائدة إلى ريع الأرض” لرأس المال المجلد الثالث). استهدفت بعض الملخصات لنصوص العلوم الطبيعية تسليط الضوء على المواد التي كان يدرسها. لكن المقتطفات الاخرى المخصصة أكثر للجانب النظري التي أراد استخدامها لإكمال المجلد الثالث . وذكر انغلز لاحقا ان ماركس” درس ..ما قبل التاريخ ،الزراعة ملكية الأراضي الروسية والأمريكية والجيولوجيا، والقسم عن ريع الأرض في المجلد الثالث في رأس المال” ( انغلز 1990:341) هذه المجلدات من ميغا2 هي الأكثر أهمية لأنها تعمل على دحض الأسطورة، المكررة في عدد من السيرة الذاتية والدراسات عن ماركس، أنه بعد رأس المال أشبع فضوله الفكري وتخلى بشكل كامل عن الدراسة والبحث الجديد.

ثلاثة كتب من ميغا2 في تم نشرها في العقد الماضي تختص بالعمل الأخير لانغلز. المجلد 1/30 Werke, Artikel, Entwürfe Mai 1883 bis September 1886 ( انغلز 2011:1154 صفحة) يضم 43 نصا كتبها في السنوات الثلاث التي تلت وفاة ماركس. من بين 29 من هذه المقالات ،17 مقالة صحفية ظهرت في أهم الجرائد لصحافة الطبقة العاملة الأوروبية. على الرغم من أنه في هذه الفترة كان منكبا على تحرير مخطوطات ماركس غير المكتملة لرأس المال، غير ان انغلز لم يتجاهل المشاركة في سلسلة من المسائل السياسية والنظرية الملحة. كما قام بعمل جدلي يستهدف عودة المثالية في الأوساط الاكاديمية الالمانية .و لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية .ويوجد 14 نصا تم نشرهم كملحق في هذا المجلد الميغا2 وهي بعض منها ترجمات انغلز الخاصة وسلسلة من المقالات الموقعة من قبل كتاب آخرين استفادوا من تعاونه .

.كما نشرت ميغا2 مجموعة جديدة من مراسلات انغلز . المجلد 3/30 iefwechsel Oktober 1889 bis November 1890( انغلز 2013: 1515 صفحة) يحتوي 406 من الرسائل المتبقية من أصل 500 أو أكثر مما كتبها بين أكتوبر 1889 ونوفمبر 1890. كما أن نشر رسائل من مراسلين آخرين لأول مرة يجعل من الممكن أن نقدر بشكل أكبر مساهمة انغلز لتطوير أحزاب العمال في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا حول مجموعة من المسائل النظرية والتنظيمية. وبعض العناصر محل التساؤل تعنى بالنشأة والمناقشات الجارية في الاممية الثانية، التي انعقد مؤتمرها التأسيسي في 14 يوليو عام 1889 .

اخيرا مجلد 1/32 Werke, Artikel, Entwürfe März 1891 bis August 1895( انغلز 2010: 1590 صفحة) يجمع كتابات من آخر أربع سنوات ونصف في حياة انغلز .هناك عدد من المقالات الصحفية لأهم الصحف الاشتراكية الرئيسية آنذاك مثل Die Neue Zeit, و Le Socialiste, و Critica Sociale لكن ايضا مقدمات وكلمات ختامية لعدد من الطبعات لأعمال ماركس وانغلز ، و نسخ لخطابات ، و مقابلات وتحيات للمؤتمرات الحزبية ،وبعض المحادثات ، ووثائق كتبها انغلز بالتعاون مع آخرين وعدد من الترجمات.

هذه المجلدات الثلاث ستكون مفيدة جدًا لدراسة أعمق لمساهمات انغلز النظرية والسياسية الاخيرة. المنشورات والمؤتمرات الدولية العديدة المحدد إقامتها في الذكرى المئوية الثانية لميلاده لن تفشل في سبر هذه السنوات الاثنتي عشر التي تبعت وفاة ماركس و التي كرس خلالها كل طاقته لنشر الماركسية.

5- ماركس آخر:
أيُّ ماركس يخرج لنا من الطبعة التاريخية النقدية الجديدة لأعماله؟ في بعض النواحي يختلف عن المفكر الذي قدمه العديد من الاتباع والمعارضين على مدى السنين.-ناهيك عن التماثيل الحجرية الموجودة في الميادين العامة تحت الانظمة غير الحرة في شرق اوروبا و التي تُظهره يشير إلى المستقبل مع يقين واضح . ومن جهة أخرى، سيكون من المضلل أن نستشهد-كما يفعل الذي يرحبون بحماس بـ ” ماركس المجهول” في كل مرة يظهر نص جديد لأول مرة- أن الأبحاث الأخيرة قد قلبت كل شيء كنا نعرفه عن ماركس .ما تقدمه ميغا2 بالأحرى هو أساس نصي لإعادة التفكير في ماركس مختلف : ليس مختلفاً لأن الصراع الطبقي أُستبعد من أفكاره ( كما يتمنى بعض الأكاديميين في اختلاف للاقتباس القديم ” ماركس الاقتصادي” ضد ” ماركس السياسي ” الذي يسعى عبثا لتقديمه ككلاسيكي عديم الفائدة) لكن راديكالياً مختلف عن الكاتب الذي تم تحويله دوغمائياً الى المصدر والأصل لـ” اشتراكية قائمة فعليا” من المفترض أنه يركز على الصراع الطبقي فقط.

تشير التطورات الجديدة الحاصلة في الدراسات الماركسية أنّ تفسير عمل ماركس قد يصبح مرة أخرى كما في مرات عديدة في الماضي أكثر دقة. لمدة طويلة سلط الكثير من الماركسيين الضوء على كتابات ماركس الشاب- بشكل رئيسي على المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 الأيديولوجية الألمانية- بينما بقي بيان الحزب الشيوعي أكثر أعماله قراءةً واقتباسًا. في تلك الكتابات المبكرة يجد المرء الكثير من الأفكار أُستبدلت في أعماله الأخيرة . ولوقت طويل الصعوبة في دراسة بحث ماركس في آخر عقدين من حياته أعاقت معرفتنا في المكاسب التي أحرزها. لكن في رأس المال ومسوداته الأولية كما في أبحاثه آخر سنواته نجد أهم تأملاته حول نقد المجتمع البرجوازي. وتلك تمثل الخلاصات الاخيرة إن لم تكن النهائية التي توصل لها ماركس. إذا تمّت دراستها بدقة في ظل التغيرات في العالم منذ وفاته ستثبت أنها لازالت نافعة لمهمة التنظير بعد فشل القرن العشرين ، في إيجاد نموذج اقتصادي اجتماعي بديل للرأسمالية .

نسخة ميغا2 تدحض مقولة أن ماركس هو مفكر كتب عنه وقيل كل ما يمكن قوله أو كتابته .لا يزال يوجد الكثير لنتعلمه من ماركس اليوم و بالإمكان القيام بذلك من خلال دراسة ليس فقط ما كتب في أعماله المنشورة بل من خلال الأسئلة والشكوك الواردة في مخطوطاته الناقصة.

المصادر:
Althusser, Louis. 1996. For Marx. New York: Verso.
Bray, John Francis. 1893. Labour’s Wrongs and Labour’s Remedy. Leeds, UK: D. Green.
Carver, Terrell, and David Blank. 2014. Marx and Engels’s “German Ideology” Manuscripts: Presentation and Analysis of the “Feuerbach Chapter.” New York: Palgrave Macmillan.
Engels, Friedrich. 1990a. Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy. Pp. 353–98 in Marx-Engels Collected Works, vol. 26. London: Lawrence and Wishart.
Engels, Friedrich. 1990b. “Marx, Heinrich Karl.” Pp. 332–43 in Marx-Engels Collected Works, vol. 27. London: Lawrence and Wishart.
Engels, Friedrich. 2010. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. I/32, Werke, Artikel, Entwürfe, März 1891 bis August 1895, edited by Peer Kösling. Berlin: Akademie.
Engels, Friedrich. 2011. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. I/30, Werke, Artikel, Entwürfe, Mai 1883 bis September 1886, edited by Renate Merkel-Melis. Berlin: Akademie.
Engels, Friedrich. 2013. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. III/30, Briefwechsel Oktober 1889 bis November 1890, edited by Gerd Callesen and Svetlana Gavril’čenko. Berlin: Akademie.
Lefebvre, Henri. 1968. Dialectical Materialism. London: Cape Editions.
Marx, Karl. 1975a. “A Contribution to the Critique of Hegel’s Philosophy of Law.” Pp. 3–129 in Marx-Engels Collected Works, vol. 3. London: Lawrence and Wishart.
Marx, Karl. 1975b. “Marx’s Undertaking Not to Publish Anything in Belgium on Current Politics.” P. 677 in Marx-Engels Collected Works, vol. 4. London: Lawrence and Wishart.
Marx, Karl. 1976. “Declaration against Karl Grün.” Pp. 72–74 in Marx-Engels Collected Works, vol. 6. London: Lawrence and Wishart.
Marx, Karl. 1977. “The Bourgeoisie and the Counter-Revolution.” Pp. 154–78 in Marx-Engels Collected Works, vol. 8. London: Lawrence and Wishart.
Marx, Karl. 1978. The Class Struggles in France, 1848 to 1850. Pp. 45–146 in Marx-Engels Collected Works, vol. 10. London: Lawrence and Wishart.
Marx, Karl. 1985. “Confidential Communication.” Pp. 112–24 in Marx-Engels Collected Works, vol. 21. London: Lawrence and Wishart.
Marx, Karl. 1988. Marx-Engels Collected Works. Vol. 30, Economic Manuscript of 1861–63. London: Lawrence and Wishart.
Marx, Karl. 2008. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. II/13, Das Kapital: Kritik der Politischen Ökonomie, Zweiter Band. Herausgegeben von Friedrich Engels, Hamburg 1885. Berlin: Akademie.
Marx, Karl. 2011. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. IV/26, Exzerpte und Notizen zur Geologie, Mineralogie und Agrikulturchemie, März bis September 1878, edited by Anneliese Griese, Peter Krüger, and Richard Sperl. Berlin: Akademie.
Marx, Karl. 2012. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. II/4.3, Ökonomische Manuskripte 1863–1868, Teil 3, edited by Carl-Erich Vollgraf. Berlin: Akademie.
Marx, Karl. 2015. Marx’s Economic Manuscript of 1864–1865. Boston: Brill.
Marx, Karl. 2017. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. IV/14, Exzerpte, Zeitungsausschnitte und Notizen zur Weltwirtschaftskrise (Krisenhefte), November 1857 bis Februar 1858, edited by Kenji Mori, Rolf Hecker, Izumi Omura, and Atsushi Tamaoka. Berlin: De Gruyter.
Marx, Karl. 2019. “Marx’s Economic Manuscript of 1867–68 (Excerpt).” Historical Materialism 27(4):162–92.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 1976. The German Ideology. Pp. 19–539 in Marx-Engels Collected Works, vol. 5. London: Lawrence and Wishart.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 1982. Marx-Engels Collected Works. Vol. 38, Letters 1844–51. London: Lawrence and Wishart.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 1983. Marx-Engels Collected Works. Vol. 40, Letters 1856–59. London: Lawrence and Wishart.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 1985. Marx-Engels Collected Works. Vol. 41, Letters 1860–64. London: Lawrence and Wishart.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 1987. Marx-Engels Collected Works. Vol. 42, Letters 1864–68. London: Lawrence and Wishart.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 1988. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. IV/4, Exzerpte und Notizen Juli bis August 1845, edited by Nelly Rumjanzewa, Ljudmila Vasina, Sora Kasmina, Marija Marinitschewa, and Alexander Russkich. Berlin: Dietz.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 1999a. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. IV/32, Die Bibliotheken von Karl Marx und Friedrich Engels: Annotiertes Verzeichnis des ermittelten Bestandes, edited by Hans-Peter Harstick, Richard Sperl, and Hanno Strauß. Berlin: Akademie Verlag.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 1999b. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. IV/31, Naturwissenschaftliche Exzerpte und Notizen, Mitte 1877 bis Anfang 1883, edited by Annalise Griese, Friederun Fessen, Peter Jäckel, and Gerd Pawelzig. Berlin: Akademie.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 2008. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. II/11, Manuskripte zum zweiten Buch des “Kapitals,” 1868 bis 1881, edited by Teinosuke Otani, Ljudmila Vasina, and Carl-Erich Vollgraf. Berlin: Akademie.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 2009. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. I/21, Werke, Artikel, Entwürfe, September 1867 bis März 1871, edited by Jürgen Herres. Berlin: Akademie.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 2013. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. III/12, Briefwechsel, Januar 1862 bis September 1864, edited by Galina Golovina, Tat’jana Gioeva, and Rolf Dlubek. Berlin: Akademie.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 2015. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. IV/5, Exzerpte und Notizen Juli 1845 bis Dezember 1850, edited by Georgij Bagaturija, Timm Graßmann, Aleksandr Syrov, and Ljudmila Vasina. Berlin: De Gruyter.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 2016. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. I/7, Werke, Artikel, Entwürfe, Februar bis Oktober 1848, edited by Jürgen Herren and François Melis. Berlin: De Gruyter.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 2017. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. I/5, Deutsche Ideologie, Manuskripte und Drucke (1845–1847), edited by Ulrich Pagel, Gerald Hubmann, and Christine Weckwerth. Berlin: De Gruyter.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 2018. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. I/16, Artikel Oktober 1857 bis Dezember 1858, edited by Claudia Rechel and Hanno Strauß. Berlin: De Gruyter.
Marx, Karl, and Friedrich Engels. 2019. Marx-Engels-Gesamtausgabe (MEGA²). Vol. IV/18, Exzerpte und Notizen, Februar 1864 bis Oktober 1868, November 1869, März, April, Juni 1870, Dezember 1872, edited by Teinosuke Otani, Kohei Saito, and Timm Graßmann. Berlin: De Gruyter.
McLellan, David. 1975. Karl Marx. London: Fontana.
Musto, Marcello. 2007. “The Rediscovery of Karl Marx.” International Review of Social History 52(3):477–98.
Musto, Marcello, ed. 2014. Workers Unite! The International 150 Years Later. New York: Bloomsbury.
Musto, Marcello. 2018. Another Marx: Early Manuscripts to the International. London: Bloomsbury Academic.
Musto, Marcello, ed. 2020a. The Marx Revival: Key Concepts and New Interpretations Cambridge, UK: Cambridge University Press.
Musto, Marcello. 2020b. The Last Years of Karl Marx: An Intellectual Biography. Stanford, CA: Stanford University Press.
Owen, Robert. 1849. The Book of the New Moral World. London: Home Colonization Society.
Rubel, Maximilien. 1980. Marx: Life and Works. London: Macmillan.
Saito, Kohei. 2017. Karl Marx’s Ecosocialism: Capital, Nature and the Unfinished Critique of Political Economy. New York: Monthly Review Press.
Smith, David, ed. Forthcoming 2021. Marx’s World: Global Society and Capital Accumulation in Marx’s Late Manuscripts. New Haven, CT: Yale University Press.